على قدر صفاقة وانحطاط السياسة الأمريكية الخارجية عموماً وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، وحالياً تحديداً تجاه وقف إطلاق النار في غزة، على قدر روعة وعظمة موقف النشء الأمريكي الجديد الذي ما عاد، في عدد كبير منه، منوَّماً مغناطيسياً بفكرة التفوق الأمريكي على بقية العالم، ما عاد مكبلاً بقيود «الوطنية» الأمريكية ولا مسيراً بالقومية المتطرفة التي طالما استخدمها النظام الأمريكي لضمان مساندة واصطفاف شعبه مع سياساته البشعة. لربما هي صحوة جمعية، لربما هو وعي متزايد، بفضل التواصل العالمي المتقارب جداً بمعية وسائل التواصل والفضاء السيبراني، التي أخرجت أخيراً الشعب الأمريكي من بين المحيطين اللذين طالما أشعراه بانعزاله عن العالم وفوقيته، وبأنه آمن أبداً ولا يمكن الوصول إليه. أتت ضربة 11 سبتمبر البشعة أولاً لتمحي فكرة الأمن الداخلي الأمريكي واستحالة الهجوم الخارجي على الأراضي الأمريكية، ثم أتت القرارات السياسية الخارجية للحكومة الأمريكية والتي أدخلت أمريكا في خنادق مظلمة وحطمت الدول والمجتمعات التي «عالجتها» هذه القرارات، لتثبت فكرة بشاعة تلك السياسة الخارجية وتطرفها واستعلائها واستقوائها، ولتؤكد على النفاق السياسي الأمريكي من خلال بروز مواقف أمريكية متعددة ومتباينة بل ومتضادة تجاه ذات المواقف السياسية وذات المعاناة الإنسانية.
وها هم الطلبة الأمريكيون ينتفضون انتفاضة شاسعة ممتدة معدية في نبلها واستحقاقها وصدقها، انتفاضة تنتقل من جامعة كبرى لجامعة كبرى، ثم إلى بقية الجامعات حول الأراضي الأمريكية، ليقولها الصغار «لعتاولة» السياسة الأمريكية بأن ما كان لا يمكن أن يستمر، وأن الصورة الحقيقية اتضحت، وأن التزوير التاريخي ظهر كما العفن المختبئ داخل قرص خبز أنيق المظهر، وأن الدعاية الكاذبة لعدالة و»نبل» الحكومة الأمريكية التي لم يصدقها في يوم أحد في العالم ولم يكذبها ذات يوم أحد في الداخل الأمريكي (إلا قلة قليلة) انكشفت وانفضحت، وبأن صانعها ومدورها . فمن جامعة كولومبيا إلى جامعة هارفارد إلى جامعة نيويورك إلى معهد ماساتشوستس إلى جامعة ميشيغن إلى جامعة بيركلي كاليفورنا إلى جامعة مينيسوتا إلى جامعة إم آي تي، إلى غيرها وغيرها التي بدت كلها وكأنها سلسلة مترابطة يصلها الشباب والشابات بعضها ببعض، بنبل وإنسانية واستحقاق وعظمة الموقف، تدفقت المظاهرات هادرة، وتوالت الاعتصامات كأنها سيل ماء عذب محاولاً تطهير هذه البقاع الشبابية الأكاديمية من رجس السياسة الأمريكية.
إن هذه الانتفاضة المشتعلة في الداخل الأمريكي الذي طالما كان، وعن سبق إصرار وترصد من حكوماته وأنظمته، معزولاً عن العالم ومدفوعاً للاسترابة منه ولتصور معلومات خاطئة عنه، الذي كان مغسولاً دماغ أفراده بفكرة الفوقية الأمريكية وبالحتمية القدرية لأمريكا بإيصال رسالة «الديمقراطية والحرية للعالم أجمع إخراجاً له من الظلمات إلى النور» وإن كرهاً وغصباً، أقول إن هذه الانتفاضة التي استطاعت شق طريقها لقلوب الأمريكيين رغم كل هذا العزل وغسيل الدماغ، إنما تدل على قوة وعدالة القضية الفلسطينية التي لم تستطع مئة سنة من البرمجة والحشو الفكري العنصري أن تغير ميزانها أو تقتل استحقاقها وعدالتها. رغم كل ما فعلت وتفعل الحكومات الغربية، والأمريكية تحديداً، للتشويش على القضية ولخلق أسطورة كاذبة تحيط بها حول الاستحقاق الديني والسياسي الإسرائيليين لتعتم عليها وتحجبها عن ضمائر الناس، فإنها لم تستطع أن تقتل الحقيقة، ولم تتمكن من استكمال كذبة «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» التي تكشّف أخيراً سقوطها الأخلاقي وعفنها السياسي الاستخباراتي والعسكري بعد أن استمرأت ارتكاب الجرائم البشعة بحق المدنيين وعلى أراض مغتصبة وعلى مرأى من العالم أجمع.
لقد سقطت إسرائيل الصهيونية في فخ العنجهية السياسية والعسكرية، اعتقدت أنها لا تزال محصنة محمية، حتى في زمن وسائل التواصل والانتشار الإنترنتي، خلف ذات الأكاذيب التاريخية والادعاءات الدينية، اعتقدت أنها لا تزال قادرة على استغلال واجترار مأساة المجازر النازية لارتكاب مجازرها الحالية التي فاقت كل تصور، وتمادت عن كل جرائم الحرب البشرية السابقة. سقطت إسرائيل وسقطت معها السمعة الكاذبة الهشة التي بذلت هي مئة سنة في بنائها، ذلك أن الكذب ليس له قدمان، والتمادي في اختبار صبر الناس أمام مقتل آلاف الأطفال هو تعبير عن رعونة وغباء كبير في حساب الموقف.
العالم بدأ يصحو من الغفلة أمام بشاعة الجريمة وانتفاخ الأكذوبة الفارغة. صحيح أن هناك من لا يزال غارقاً في وحل المصلحة مستنداً إلى جثث الأطفال الأبرياء، مثل نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا وذات الأصول العربية والتي بادرت بالإبلاغ عن المحتجين، ما أدى لإيقاف أكثر من مئة طالب عن الدراسة في جامعتها، وصحيح أن هناك من لا يزال غارقاً في الغفلة، مقاوماً صحوة الحق بل ومصراً على ابتلاع حبوب الهلوسة السياسية التاريخية لتسهل عليه مصادقة القاتل والرقص على جثث الأبرياء، لكن المستفيقين من الغيبوبة أكثر وأشرف وأشجع وأنظف، ومن تريد القضية العادلة أفضل من هؤلاء سنداً لها؟
شكراً لطلبة أمريكا الشجعان الذين اختاروا أن يستيقظوا رغم آلام العودة للوعي ولا عزاء لهؤلاء الباقين تحت التخدير أو لهؤلاء الذين اختاروا طوعاً أن يخدروا ضمائرهم لصالح مصالحهم. التخدير المتعمد الطويل يتلف الدماغ ويشل الأطراف ويخلع عن الإنسان أبسط مظاهر إنسانيته، وقضيتنا العادلة لا تحتاج لمخدَّرين.