رغم كل ما أثارته وتثيره الثورات العربية من آمال متجددة، رغم كل ما تشعله من حماس وإصرار باتجاه التغيير، إلا أنه في الغالب أن شيئا ما لن يتغير، على الأقل حاليا، والسبب هو أنه مع صدوح الأصوات وارتفاع الصيحات وتجلي المواقف المؤثرة، تبقى الأفكار ثابتة لا تتغير.
ما هي قيمة الثورة أو حقيقية نتاجها إذا ما بدّلت أشخاصا بأشخاص دون أن تأخذ شعبها إلى تغيير حقيقي في الأفكار والمفاهيم والقيم الإنسانية، التي من شأنها أن تقلل بشكل مؤثر من نسب الفقر والفساد وانتشار الوسائط والتحالف الديني بالسلطة؟ على ظاهر قلبي يتجلى فرح شديد وانفعال صادق مع الثورات الشعبية المشتد عودها حولنا، في باطن عقلي لا ينفك صوت التجربة يزوم في أذني: لم تتغير فكرة، لن يتغير شيء.
لا أدل على هذا التجمد المزمن لأفكارنا من المقياس الغابر الذي ما زلنا نعتمده في تقييم مجتمعاتنا وثوراتها: طول تنورة المرأة الثائرة مقياس على جدية الثورة، الجينز الذي ترتديه مؤشر على أخلاقيتها. أي غشاء مخاطي لزج هذا الذي يغطي أعيننا فلا نستطيع أن نرى في ثورة متكاملة أبعد من الأجساد النسائية التي تشارك بها ولا نستطيع أن نقيمها سوى من خلال الشهوات الفواحة بمرضها تجاه نساء يشكلن، دوما، أغلبية في هذه الممارسات الثورية البالغة الخطورة؟
أي فساد قبعنا فيه حتى اعتدناه بحيث ما عاد يؤثر فينا أن يرقص الساسة على أوجاعنا، أن ينهبونا في وضح النهار هاربين للخارج بأموالنا المحمية في البنوك الأوروبية، أن يعقدوا الصفقات بدماء أبنائنا وبناتنا، ليصبح كل ما يؤلمنا هو امرأة رقصت في شارع ثائر؟
يدب هذا الرقص الشرقي في شوارع العديد من الدول العربية تحت جنح الليل، وأحيانا في وضح النهار، يقدم على أنه فن عربي راق، وأحيانا على أنه إغراء جسدي رخيص. الرقص، مثله مثل كل فعل نأتيه، يمكن أن يحتمل هذا أو ذاك، فلماذا أصبح الرقص الواضح الذي يحتفي بالثورة عار عليها في حين أنه معروف من الجميع ومسكوت عنه وهو مستتر وتحت جنح الظلام أو خلف الجدران؟
لأن الأفكار المريضة لا تتغير، فهي لا ترى أبعد من الأجساد ولا تحترم سوي الخفي من الأفعال مهما بلغت بشاعتها ولا تقيم الأخلاق سوى من خلال مدى ضبط وربط النساء في مجتمعاتها.
لا نختلف في ذلك بين دولة غنية أو فقيرة؛ الإهانة واحدة والفساد واحد. في الكويت الغنية، لنا في تاريخنا الحديث كم من حوادث سرقة تهد الجبال، من سرقة مشروع ناقلات النفط إبان الغزو، مرورا بحادثة إيداعات مليونية كارثية في أرصدة نواب برلمانيين، وصولا إلى سرقة مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي هي “نهيبة” باتت تهدد عدد كبير من المتقاعدين الكويتيين.
ومثلما أن العقل العربي الفاسد واحد، يسرق حتى يحرق مستقبله وأبنائه بإرادته فلا يكاد يرى أبعد من العشر سنوات القادمة من حياته، فإن العقل العربي الناقد واحد، لا يرى أبعد من جنس من أمامه حين ينطلق إلى تقييمه.
قبل سنة 2005 وفي خضم العمل الحار من أجل حصول المرأة الكويتية على حقها السياسي في الترشيح والانتخاب البرلمانيين، وصف أحد النواب النساء الفاعلات في المجال “بالخراتيت”. وإبان العمل في حملة “نبيها خمسة” التي سعت لتغيير الدوائر الانتخابية الكويتية، حيث قضى عدد من شبان وشابات الكويت ليلتهم في خيام منصوبة أمام مجلس الأمة، انصبت التعليقات على “ما كان يحدث” في هذه الخيام التي ما “تورعت” الفتيات الخليجيات المحافظات عن البيات فيها.
مؤخرا، حين خرجنا في الكويت في حملة “دق الجرس” التي توازت مع حملات أسواق مالية عالمية للتذكير بحقوق المرأة، وصفنا “ذكور” وسائل التواصل الاجتماعي بالأبقار التي تدق أجراس رقابها متى ما تحركت.
في آخر حركة نسوية خرجنا لها أمام مجلس الأمة، بعث لي “ذكر” على موقع تويتر ينصحني بما معناه أن أَخرِجن معكن بعض الجميلات، ستتحصلن على تأييد أكبر، في إشارة أولا إلى قبحنا (كفكرة عامة حول كل النساء الناشطات عموما) وفي إشارة ثانيا إلى أهمية الشكل والجمال في أي حراك يمكن أن يتصل بالمرأة.
الآن، من فينا يستحق أن يوصف بالبقرة المترنحة التي يسيل لعابها ويدق جرسها كلما تحركت أو تحرك شيء أمامها، النساء أو أمثال مثل هذا “الذكر”؟
الزميل في موقع الحرة مالك العثامنة كتب في مقاله الرائع ليوم 22 أكتوبر والذي أتى بعنوان “شي تك تك..شي تيعا” أن “المشكلة ليست عند اللبناني بالمطلق، المشكلة دوما عند من يتلقى المشهد، وردة فعله هي انعكاس لما في داخله الشخصي، فإن كان يرى في الجميلات الثائرات صورة وسخة، فهذا انعكاس لوساخته الداخلية ضمن أبجدية راسخة فيه، وإن كان يرى فيها تمردا على الظلم، بجمالية أنيقة فتلك رؤية إنسانية بلا شك”.
نعم، المشكلة عنده ذاته، هذا الذي رأى في ثائرات مصر فاجرات خرجن للتظاهرات ليوقعن الرجال في حبال الشهوة غير القادرين على مقاومتها، مما أوقعهم في خطأ التحرش الذي أجبروا عليه بدافع من “خلاعة” المتظاهرات.
المشكلة عنده ذاته الذي رأى في الكويتيات المطالبات بحقوقهن “خراتيت” وأبقار وفاجرات لقضائهن ليلة أمام مجلس الأمة.
المشكلة عنده ذاته الذي لا يرى في ثورات إيران المتقطعة أبعد من زحلقة أغطية رؤوس نسائها عن شعورهن الكثيفة.
المشكلة عنده ذاته الذي ما لاحظ عذابات السودانيات ولا انتبه للمعاناة الحقيقية للسعوديات لأنهن، بجمالهن، أكثر حشمة وتغطية، حتى باتت حشمتهن، كما هو تحرر الأخريات، نكبة عليهن.
لا حشمة نافعة ولا تحرر نافع، لماذا؟ لأن عقول ذكور المجتمعات العربية معلقة بالأجساد الأنثوية، فهي ساحات الانتصارات الدنيوية الوحيدة “للذكر” العربي، وهي الإثباتات الأخروية الأهم له كذلك، فكيف يمكن “للذكر” العربي أن يفكر في الثورة ومتطلباتها وتبعاتها، وهناك أجساد أنثوية، مغطاة أو مكشوفة، تشكل له ساحة صراع دنيوي وأخروي تشاركه الشارع؟
ليقولوا ما يقولون، كل شعب يتظاهر بطبيعته، بطريقته، بعاداته، بمرح نفسه أو بؤسها، بحبه للحياة أو اكتفائه منها. كل شعب حر، وما لنا إلا أن نحترم معاناة الشعب اللبناني ونحترم جمال وأناقة نسائه، تلك التي بحد ذاتها طالما كانت عامل جذب لزيارة لبنان.
فكما نستمتع بحس اللبنانيات الجمالي في وقت السياحة لنحترمه كذلك في وقت الثورة. كل واحدة من هذه الجميلات عن مئة إنسان، جمالهن وأناقتهن إضافة لهن كإنسانات وإضافة للمشهد الحالي كمشهد ثوري جمالي غير مسبوق.
حفظتك الأقدار يا لبنان ويا نساء لبنان.