وصلني تعليق لائم من أحد المعلقين الأعزاء على مقالي السابق المنشور هنا في «القدس العربي» على مناقشتي طلبتي لكتاب توماس مور يوتوبيا، يتساءل فيه حول ما دفعني لمناقشة الكتاب هذا وما إذا كان ذلك يعني تغيير «اختصاصي التعليمي».
ذكرني التعليق هذا بتعليق لمعلق كريم آخر كان قد لامني على مناقشتي للغة القرآن مع مجموعة من الصديقات من حيث إن هذا نقاش يخرج عن اختصاصي، وبالتالي فأنا غير مؤهلة، حسب ما فهمت من المعنى، لأن أعطي رأياً في هكذا موضوع.
وبغض النظر عن حقيقة أن كتاب توماس مور يوتوبيا هو أحد أهم أعمال القرن السادس عشر الأدبية التي لا يفترض أن تخلو قائمة القراءة في أي قسم آداب وعلوم إنسانية، أياً كانت لغته، منها وبالتالي هو في صميم التخصص وأحد أهم أمهات الأعمال الإنكليزية المستوجب قراءاتها، وبغض النظر كذلك عن ماهية تخصصي وعن أن مناقشة ودراسة اللغة، بما فيها لغة الكتب الدينية، هو في صميم هذا التخصص وهو من أهم المناقشات التي تدور في أروقة أقسام الأدب والعلوم الإنسانية، بغض النظر عن كل ذلك، فإن المشكلة الحقيقية في هذه الحوارات كلها لا تستقر في المعلومة المغلوطة ولا في الفهم الخاطئ لطبيعة التخصصات ولا حتى في الحقائق المقلوبة التي يقررها بعض القراء عن شخص صاحب الرأي.
المشكلة الحقيقية هي في هذه العصي الكثيرة التي يمسكها الإنسان العربي بالتحديد في يديه ليحدد بها المناطق المتاحة والمحظورة، ليعطي بها إشارة المرور والوقوف، ليضرب بها، مجازاً وأحياناً حقيقة، على أكتاف المتحاورين، منظماً لحركة الحوار، محدداً من يجوز له المرور من دفة الحلال والمقبول، ومن سيقف خلف حاجز الحرام والمرفوض وعدم الاختصاص.
في رأيي، تتلخص المعضلة في موضوعين: موضوع الاختصاص، وموضوع العلمية؛ أما الاختصاص، فهو يستخدم حيثما كان الهدف إسكات الرأي الآخر. فعوضاً عن مناقشة النقطة المثارة، يتم التشكيك في قدرة الشخص المتحاور والتقليل من قيمته كإنسان صاحب فكرة ورأي لصالح الفكرة المضادة. يستخدم هذا السلاح باستمرار في الحوار الديني العربي، الذي من خلاله يتم تقليل قيمة أي رأي مختلف أو مضاد وتعريته من أي وزن أو جدية، ذلك لأن قائله «غير مختص» وذلك بغض النظر عن فحوى هذا الرأي ومدى أهميته في الحوار.
فكرة الاختصاص قد تنمنمت اليوم وتضخمت في الوقت ذاته، بمعنى أن الاختصاصات أصبحت غاية في المركزية اليوم، ففي المجال الأدبي مثلاً، لدينا اختصاص الأدب الغربي، ثم اختصاص الأدب الأمريكي، ثم اختصاص أدب السجون في الأدب الأمريكي من بين فروع رفيعة أخرى كثيرة، إلا أن الاختصاصات ذاتها أصبحت متضخمة بمريديها ومتاحة للجميع كذلك، ذلك أن توفر المعلومة وسهولة الحصول عليها، حتى التقنية جداً منها، جعلا الاختصاص متاحاً للجميع مما نفى عنه، في الكثير لا جميع الحالات، لب معناه.
وأما العلمية، فهذه أمرها حساس ومعقد؛ ذلك أن العموم يعتبرون الفكر الديني علماً بالمعنى الدقيق، وبالتالي يحكرون أمره في دارسيه (عودة للفكرة الأولى للاختصاص). لكن واقع الحال يقول إن الأفكار والدراسات الدينية لا تنطبق عليها «الميثودولوجية» العلمية في البحث، في وضع فرضية وإجراء تجربة ثم التمحيص إثباتاً أو نفياً. كثير من الأفكار والعقائد والعبادات تؤخذ على الرغم من علاتها التجاربية والإثباتاتية. لا يمكن وضع كل الأفكار الدينية موضع التجربة والإثبات والنفي، بل إن مجمل الفكر الديني يعتمد على «الإيمان» الذي لا يحتاج إثباتاً حسياً بل شعوراً داخلياً يثبته ويرسخه. وعليه، إذا ما انتفت «العلمية» بمعناها البحت، هل يغير ذلك مفهوم «الاختصاصية» بمعناه البحت كذلك؟
في العموم، يحق لكل إنسان مناقشة كل الأفكار، أن يكون ضليعاً أو سطحي المعرفة في موضوعها هذا أمر آخر. يبقى الثابت أحقية الإنسان في مناقشة ما يريد وكيفما يريد، وبالأخص المواضيع التي تتحكم في مجمل حياته وتؤثر في تفاصيلها اليومية كالمواضيع الدينية والإنسانية. إن منع الأفراد من إبداء آرائهم بحجة الاختصاص هي فكرة قمعية قديمة، لربما بلغت أوجها في الزمن الأول للظهور المسيحي، حين كان الإنجيل مكتوباً باللاتينية دون الترجمة للإنكليزية، وحين كان فهمه منوطاً فقط بالقساوسة القادرين على قراءته.
إضافة إلى ذلك، فإن المنع مؤشر خوف، دائماً هو مؤشر خوف على شيء أو منه، وهو في حالة قمع الرأي الديني المختلف يشير بكل وضوح إلى خوف على العقيدة بصورتها الأولية، وخوف من الفكرة بصورتها المتجددة دائماً. أتفهم الخوف وأتعاطف مع صاحبه، إلا أنه بلا شك المتسبب الأول في جمودنا المصاحب لنا على مدى ألف سنة، وتزيد الآن. تنوع الآراء، من أبسطها إلى أعمقها، هو ظاهرة صحية، وتفاوت مستوياتها هو ما يعطي القيِّم قيمته ويوضح أهميته. اختلفوا تصحّوا.