«هذا كلام إنشائي، بعيد عن الواقع، لا يمكن إدارة دولة بمثاليات الحقوق، أنتم تعيشون في السماء ونحن نعيش على الأرض»، هذه هي الردود التي تتكرر دوماً عند الحديث عن الحقوق الإنسانية وموقف إدارة الدولة منها، ولأن الكلام الحقوقي حول القيمة الإنسانية والحقوق الأصيلة والمسؤولية تجاه المعاهدات والاتفاقيات الموقعة أصبح كلاماً مطاطياً مملاً، يمتد مع صاحبه أمتاراً ويعود إليه جالداً لاسعاً ليفيقه من نومته الإنسانية، فأنا هنا سأتجنبه وسأتحدث بالمنطق والفائدة، ومن منطلق السعر والطلب، فلكل شيء ثمن كما قال لي صديق لدود، وأول الأسعار وأرخصها هو الإنسان.
ها نحن ندخل النصف الثاني من السنة وقضية تعليم أطفال البدون كما هي، شُكلت لجنة وقُدمت طلبات ولم نسمع شيئاً بعدها بخصوص العدد الذي حُرم من التعليم بداية السنة. الآن، تطل علينا مشكلة أخرى وهي رفض جامعة الكويت قبول الطلبة الحاصلين على 90% فما فوق، والذين لم يقبلوا في الفصل الأول على وعد القبول في الفصل الثاني، فبلّغت الجامعة عدداً منهم بالاعتذار عن عدم قبولهم نظراً لعدم وجود شواغر.
لا لا، لن أقول التعليم حق إنساني والأطفال ليس لهم ذنب، والمتفوقون مسؤوليتنا وكل هذا الكلام الماسخ، لنفرش «الملاية» على الأرض ونفكر واقعياً، الأطفال يدفعون الثمن كل يوم في كل أنحاء الدنيا، والناس طبقات و«ليس» لكل مجتهد نصيب، والعنصرية واقع، وهذه حظوظ، وأنا ومن بعدي الطوفان، لا بأس، لنستخدم هذه الأفكار كقاعدة، ولنتمعن قليلاً. البدون لهم واحد من ثلاثة مصاير: إما أن يتجنسوا ويصبحوا كويتيين، وإما أن يبقوا معلقين كما هم الآن، وإما أن يُهجّروا. أعرف أنني أسرد ما لا يحتاج إلى سرد، ولكن مبتغاي هو، في كل واحدة من هذه المصاير الثلاثة، ألا ترى الدولة وشعبها الإنساني منه والعنصري ضرراً في أن يبقى هؤلاء بلا تعليم؟ فإن أصبحوا كويتيين، فقد زدنا شعبنا أشخاصاً ناقصي علم وتأهيل سيكونون عبئاً على المجتمع، وإن بقوا معلقين وهم يعيشون بيننا فقد تركنا أطفالاً وشباباً في الشارع بلا علم أو ثقافة، تركناهم مصحوبين بالكثير من الغضب واليأس والألم، فما الناتج؟ أين ستذهب طاقة الغضب المدعومة بغياب العلم الذي يهذب النفس؟ وما خسائرنا كمجتمع عندما نرمي الطاقات الشبابية في الشارع، الطاقات التي كان يمكن لها أن تخدم في وظائف صغيرة وكبيرة تغني المجتمع عن احتياجه لعمالة خارجية بضعف عدد سكانه؟ وماذا لو هجّرناهم إلى الخارج دون علم أو شهادة؟ ستصعب عملية انتمائهم إلى أي مجتمع آخر يذهبون إليه، وسيتعرقل تجنيسهم في الدول الأخرى، وسيبقون معلقين باسم «مبعدي الكويت» الذين صدرتهم الدولة دون علم يسندهم أو شهادة توظفهم وتقيهم العوز.
نحن لا نرى أبعد من أصابع أيدينا، لا نرى ما نفعله بأنفسنا ومجتمعنا وسمعتنا، ركبتنا عنصرياتنا، واستهلكنا عنادنا وإصرارنا على معالجة المشكلة بأسلوب أكل الدهر عليه وشرب، نضيّق على الناس ونعاقبهم حتى في أولادهم، ولا ندري أننا نعاقب أنفسنا ونعرض مجتمعنا بأكمله لخطر محيق. ليس من أجل المعاهدات والاتفاقيات، وليس من أجل الإنسان وقيمته وحقوقه الأصيلة، وليس من أجل الطفل وبراءته والغريزة الإنسانية التي تحرّم الانتقام من والديه في شخصه، وليس من أجل كل ذلك يجب أن نغير سياستنا، نغيرها من أجل أنفسنا، من أجل مصلحتنا، من أجل حبنا لذاتنا، حتى من أجل عنصرياتنا. فحتى نستمر في اعتقادنا بأفضليتنا وحتى نبقى نمارس عنصرياتنا، نحتاج إلى دولة ومجتمع، وأرض ومؤسسات، وتلك نحن نهدمها خطوة بخطوة، طابوقة بعد طابوقة بطريقة تعاملنا مع مشاكلنا، مع الإنسان في بلدنا.
«الإنسان في بلدنا»، هي نظرة للطريقة الحالية التي أصبحت الدولة تتعامل بها مع الأجانب في الدولة، التضييق والتسفير والعقوبات، عقوبات تتعدى المخالفات، وأدوية تتعدى الداء، وكأن الدولة تعطي جرعات كيماوية لمرضى أنفلونزا، هي نظرة تشير إلى أن الوضع لا يتغير والأسلوب لا يختلف سوى إلى التشدد، تشدد لا يحل مشكلة ولا يؤتي نتيجة، تشدد يجذر الفرقة بيننا في البلد، ويرفعنا طبقات ويهبط بغيرنا طبقات، ويلوّن الإنسان ويفرزه ويعلّبه، ثم يعنونه: غير صالح للحقوق.
حتى نكون بخير فلا بد لمن يشاركنا أرضنا وسماءنا وهواءنا أن يكون بخير، ليس كلام إنشاء، وليس كلاما مثاليا، وليس حديث حقوق ومُثل ومبادئ، إنه منطق مباشر يحتوي من الأنانية وحب الذات والعنصرية على ما نحب ونرضى، فقط يجب أن نفتح أعيننا ونرى، حتى ننقذ أنفسنا قبل غيرنا.