لطالما رسمت المعتقدات الدينية شكل الأيديولوجية السياسية المفعلة في المجتمع، الدليل على ذلك هو تحول المجتمعات الإنسانية من حكم الجماعة إلى السياسة الشمولية لحكم الحاكم الواحد مع بداية (أو قبل بقليل) تحولها إلى فكرة Monotheism أو فكرة الأديان التوحيدية.
اليهودية هي أول الأديان الموحدة، من خلالها مارست أول جماعة التعبد لإله واحد، إلا أن أول الأشخاص الموحدين والذي معه لربما انطلقت فكرة التوحيد بشكلها المقنن هو الفرعون أمنحتب الرابع، والذي غير اسمه لاحقا لأخناتون والذي يعني “الروح الحية لآتون” الذي هو إله الشمس. يقول نوبوأكي نوتوهارا في كتابه “العرب: وجهة نظر يابانية” إنه “وفي ذلك المناخ المنهمك في البحث عن الخلود ظهرت المعابد المصرية الكبرى والتحنيط والأهرامات وغيرها من الأعمال التي تحاور المطلق المتعالي عن الزمان والمكان… الله في ثقافات هذه الشعوب واحد لا شريك له. في وادي النيل وفي بلاد ما بين النهرين. ونحن هنا نتكلم عن التاريخ الأقرب الذي قضى على فكرة تعدد الآلهة بصورة نهائية تقريبا”. يستكمل نوتوهارا شرحه واصفا تأثير هذه الفكرة على التوجه الاجتماعي والسياسي في المنطقة فيقول “إن فكرتي التوحيد ومشكلة الخلود تشكلان إحدى المزايا الأساسية المميزة لتاريخ المنطقة الثقافي قبل الأديان السماوية ومعها. وهذه المسألة في أحد وجوهها على الأقل تعبر عن الحركة الاجتماعية لتلك الشعوب كما تدل بوضوح على مفهوم الحاكم الفرد المطلق” (49 ـ 50).
إنه لمن الملفت بحق كيف يتعامل سكان المنطقة الشرق أوسطية بالكثير من التقديس الأبوي مع حكام مناطقهم، وفي حين أن الزمن يتطور والمفاهيم البشرية عموما تتغير باتجاه فقدان “الكبار” لتقديس “الصغار”، وتبديلا لمفهوم الحاكم الأب ليتم وضعه في مكانه السياسي الطبيعي “كمدير” لشؤون الدولة هو عرضة للنقد والتقريع بل وحتى السخرية، إلا أن هذا التغيير هو بالغ البطء وعصي على التحقيق في منطقتنا العربية التي لا تزال مغموسة تماما في المفاهيم الأبوية القديمة والمعتقدات العلاقاتية البدائية التي تعطي السلطة والاحترام وحق الطاعة لكبير السن (والمقام) مهما كان توجهه أو طريقة إدارته.
وعليه، نجد أن المنطقة العربية تتعامل مع حكامها كآباء عوضا عن كونهم “موظفي دولة”، فتوجب احترامهم بدافع من مراكزهم لا أفعالهم، وتحرم نقدهم بحجة أن الحاكم أب تستَوجب طاعته، وراثة عن الفكرة القديمة أن الحاكم إله أو شبه إله أو ابن إله له حقوق مقدسة وصلاحيات مطلقة، وتأييدا من الفكرة الأكثر حداثة لبعض القراءات الدينية التي تفرض طاعة ولي الأمر ولو كان عاصيا فاسقا.
إضافة إلى ذلك، تتحالف فكرة أوحدية الحاكم مع فكرة خلوده (مرة أخرى مستوحاة عن الفكرة الغابرة لألوهية الحاكم)، واللتين هما فكرتان، الأوحدية والخلود، معززتان من خلال قراءات دينية إبراهيمية لخلافة الحاكم على الأرض، ولخلوده الخفي لحين موعد ظهوره لينقذ الدنيا من الأشرار ولينتصر بالمؤمنين في نهاية الزمان، لتتأتى من هذه الفكرة ممارسة صعود الحاكم في منطقتنا إلى كرسي الحكم دون أدنى نية للنزول عنه. فحتى وإن كانت هناك محاولة لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي يغير الحاكم هذا ويعيده لصفوف الشعب، لربما نجد أن الشعب بحد ذاته لا قبول لديه للتخلي عن تقديسه لهذا الشخص ولا طاقة له بالتعامل معه مجددا كإنسان عادي، ولا أوقع من النموذج المصري مثالا على هذه الفكرة، حيث تم تغيير الدستور لمد عمر حكم الحاكم وتمكينه من الكرسي لفترة لربما تمتد عن عمره، وذلك بموافقة ومباركة الشعب الذي أقام بدل الثورة اثنتين، وغير بدل الحاكم اثنين، ومع ذلك، ما استطاع أن يزحزح ولو قليلا فكرة القداسة الثابتة الصارمة هذه، فما وجدناه سوى أن “أخذ لفة ورجع تاني” إلى حيث منطقة الحاكم الأب الصارم الدائم.
تتحالف هاتان الفكرتان للوحدوية والخلود مع فكرة المخلص أو المنقذ والتي تأتي من منطلقات ثيولوجية مزروعة في كل الأديان تقريبا، الحديثة أو الإبراهيمية منها والقديمة الفلسفية كذلك. تترجى فكرة المخلص صبر الشعوب على بلائهم وتحملهم للمظالم والقمع والفساد لأن هناك مخلصا ما سيأتي آخر الزمان لينقذهم وينصفهم ويحررهم.
وفي حين أن العديد من شعوب العالم تغلبت على فكرة الانتظار اللانهائي هذه، بقينا نحن هنا ننتظر وننتظر وننتظر، ننتظر مخلصا ما، بطلا ما، عادلا ما ينصفنا، ثوريا ما يأخذ لنا حقنا، وفي عارض انتظارنا نسينا أفكار الرفض والمقاومة والتغيير، أجلناها الى أجل غير مسمى، وضعناها في ثلاجة الخوف التي جمدت مشاعرنا عدا تلك التي تترجى السلامة وتتمنى اللقمة وتحمد ربها على المكروه الذي لا يحمد عليه سواه.
في منطقتنا، إرادة التغيير غير مفعلة، لأن التغيير فكرة حديثة، في حين أننا لا نزال نعيش في زمن ما هناك، حيث الحاكم الأوحد المقدس الذي يحيا في قصر ويموت في هرم ويُقَدس سره ويُطاع أمره وتُحفظ أبويته ولو أنه بطش “بأبنائه” أجمعين. كم نحن شعوب غريبة الأطوار.