إحراج

في حلقة جميلة على البودكاست المميز «السايوير بودكاست» للدكتور الكويتي محمد قاسم، التي هي بعنوان «حينما تفكر الحيوانات»، يستعرض الدكتور عدداً من الممارسات والتفاعلات الحيوانية ومعانيها العلمية وعلاقتها بالوعي والتفكير. من ضمن ما ذكره الدكتور ظاهرة «استسلام الخروف للذبح»، التي انتشرت بشكل كبير من خلال فيديوهات مختلفة. أصحاب الفيديوهات يروجون لفكرة أنه بمجرد ما إن تبسمل على الخروف، فإنه ينام مغناطيسياً مما يسهل ذبحه. يوعز البعض هذا الاستسلام لتأثير البسملة على الحيوان مدعين أن هذا التأثير هو «معجزة من معجزات الإسلام»، حتى أن أحدهم يذكر في أحد الفيديوهات أن هذه الحيوانات هي «أكثر تديناً من أغلبية البشر».
يشير الدكتور قاسم إلى أن الظاهرة المذكورة تلك عند الحيوانات هي ظاهرة شلل معروفة ومفسرة علمياً، فعلى سبيل المثال، يذكر الدكتور، إذا ما وضعت رأس الدجاجة على الأرض ثم رسمت خطاً مستقيماً أمام عينيها، فإنه سرعان ما ستتجمد الدجاجة في مكانها «وكأنها مشلولة وستبقى في هذه الحالة حوالي ثلاثين دقيقة»، يؤكد الدكتور: «في الواقع، الدجاجة ليست نائمة، إنما الاصطلاح العلمي لهذه الظاهرة هو النوم الظاهري». يستكمل الدكتور قوله إن تلك الظاهرة منتشرة بين الحيوانات، حيث انه كثيراً ما تُشَل أجسادها جزئياً للتظاهر بالموت، وذلك لخداع غيرها من الحيوانات التي تحاول افتراسها، ذلك أن الكثير من الحيوانات المفترسة تفقد اهتمامها بالفريسة الميتة أو أنها تطمئن لموتها، وبالتالي عدم هربها. وعليه، فإنها تتركها لفترة، مما يوفر فرصة لهرب الفريسة «المتنكرة» بالشلل الجزئي.
يسوق الدكتور قاسم مثالاً آخر على هذه الظاهر، يتجلى في تجميد سمك القرش، حيث إن الغواصين المتخصصين يمكنهم عمل ذلك عن طريق قلب القرش على ظهره أو المسح أسفل وجهه. أما الخروف، فيستسلم جسده لهذا الشلل عند مسك رجليه وتثبيت رأسه أو لفه بشدة، هذه الحركات تشل الخروف سواء بكلمات مصاحبة أو دونها، وسواء بسملت عليه أو قرأت عليه شعراً. يؤكد الدكتور أن بعض المزارعين يستخدمون هذه الطريقة لجز صوف الخراف، حيث يرفعون قدمي الخروف الأماميتين ثم يجلسونه على مؤخرته، مما يجمد الخروف تماماً ويهدئه لإنجاز العملية دون متاعب أو مقاومة.
يصف الدكتور قاسم رد فعل الشارع الإسلامي تجاه ظاهرة «استرخاء الخروف» وصفاً فكاهياً، قائلاً إنه حين «نشاهد اللقطات (نبدو) وكأننا نحن الذين نصاب بالتنويم المغناطيسي»، ذلك أننا لا نبحث عن الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، على حد وصف الدكتور. نحن «نسقط عواطفنا» كما يصف الدكتور، حيث نعتقد أن الحيوان يعبر عن عاطفة بشرية وأحياناً بطريقة بشرية، ولا نفكر بأنه قد يكون لجسد الحيوان ووعيه و»تفكيره» توجهات وأساليب ومخرجات مختلفة تماماً. إلى هنا والمشكلة مفهومة من حيث إيعازها لسذاجة البشر، ذلك أننا نؤمن بما نتمناه. نتمى معجزة دينية في زماننا فيؤمن بعض المسيحيين بأن تمثال العذراء في أحد الكنائس يبكي دموعاً، ويؤمن بعض الشيعة أن وجه الخميني تجلى مرسوماً إبان الثورة على صفحة القمر، ويؤمن بعض السنة أن قائداً ما أرسله الله لينصرهم على من عاداهم، بل وأن اسمه ورد في كتب الأولين، ويؤمن بعض المسلمين عموماً أن خروفاً يكاد يذبح يذهب لمصيره مستسلماً حين تقرأ البسملة عليه.
ما هو غير مفهوم، تقصد البعض بنشر وترويج خرافات وقصص كاذبة اعتقاداً منهم أن «الغاية تبرر الوسيلة»، وأن نصرة الدين تبرر الكذب، وأن رفع عدد المنضمين للعقيدة يمسح ذنب كذبة بيضاء تتلى على مسامع الساذجين، بل لربما يطمئن هؤلاء أنفسهم أنهم إنما يسعدون السذج ويريحون منهم الخاطر والبال بهكذا كرامات مدعاة. هذا تصرف غير منطقي مطلقاً؛ لأنه في عمقه يكشف عدم إيمان بحقيقية الدين أو بقدرته على الوقوف على قدمين عقائديتين قويتين. ما الحاجة إلى الكذب أو اختلاق القصص لإثبات صحة عقيدة إذا كنت مؤمناً بها وبحقيقية تأثيرها على حيوات ونفوس ومصائر البشر؟ هل الموضوع يتعلق بالكمية أو النوعية، بعدد البشر المنضمين لهذا الدين أم بنوعية تدينهم وحقيقية انتمائهم؟ إن الكذب لإقناع الناس بصحة فكرة، أي فكرة، تشكك بالفكرة نفسها وتضعف من موقفها، وكأنها غير قادرة على التماسك بمفردها مما يحوجها إلى كذبة أو ادعاء أو خرافة تسندها. أي ضرر يوقعه هؤلاء بالفكر الديني دون أن يفقهوا ما يأتون؟
بلا شك، للمعجزة أثر السحر في القلب، وللكرامات التي تعطي نوعا من الإثبات على صحة عقيدة قوة الدليل المادي غير المتوفر عادة للعقائد الروحانية. هذا الأثر وتلك القوة يدفعان الناس بكل تأكيد للإيمان والاستزادة دون تمحيص أو بحث أو تفكير، وهم بذلك يؤذون العقيدة ويهزون موقفها حين ينكشف الادعاء، ولربما أول ما يؤذون إنما يؤذون أنفسهم وقلوبهم التي تمسكت بالخرافة كوسيلة لتوطيد الإيمان، فإذا ما غابت هذه الخرافة، بم سيتمسكون؟ وكيف سيملأون الفراغ؟ وكيف سيعيدون صياغة تفكيرهم ليتجه للمنهج البحثي الحقيقي المضني لا الغيبي اللذيذ؟ أولاً وأخيراً، الكذبة ستنكشف، فعلام هذا الإحراج؟