لا يقتل فكرة ما مثل التشدد في تطبيقها، فردة الفعل الإنسانية الطبيعية هي مقاومة الفرض والتشدد وإن أتيا ليتوافقا وتوجهاته. فالإنسان، مهما بلغ تدينه والتزامه، ما إن يشعر بأن الدين اتخذ وجه وجسد إنسان آخر يأمره وينهاه ويتسلط عليه، حتى يبدأ بالتململ الذي لا يلبث أن يتحول إلى مقاومة، ومن ثم إلى صراع دامٍ.
والمتشدد هو أكثر من يهاب الدين، يتعامل معه على أنه منظومة عقابية، سلسلة من الأوامر والنواهي التي غرضها أن تجعله في صراع دائم مع النفس والنوازع ورغبات الحياة. يتعامل مع الخالق على أنه مصدر رعب وعقاب وعذاب، يعبده ليتقي الأذى والنار، لذا، هو يتراكض في الدنيا زاجراً حاجراً، معتقداً أنه بذلك يحقق رغبة إله صارم قاس، إله يرفض كل ما يرقق النفس ويمتعها بل حتى ما يثقفها ويفتحها على المجتمعات الأخرى.
فإله المتشدد يكره الموسيقى، يحجر على الفن، يعادي السماحة والضحكة، يطالب معبوديه بالتجهم في وجوه من يخالفونهم العقيدة، ينهاههم عن التفكر في الخلق والتطور وفلسفة الوجود. إله المتشدد يبدو دوماً خائفاً، متوتراً من كل محاولة إنسانية للاكتشاف والتحقيق والتمحيص والتشكك، وكأن التفكير نفي لحقيقته.
إله المتشدد يهدد وجوده حفل غنائي أو مؤتمر فكري، إله المتشدد يستفزه شعر امرأة أو وجه رجل حليق، إله المتشدد يسعى إلى أن يكون كل البشر نسخاً متطابقة، كلما أوغلوا في تقييد فكرهم والتزمّت في حياتهم بعداً عن كل ما من شأنه أن يرقق القلب والروح، ابتعد هؤلاء البشر عن الخطأ، فمن لا يعمل لا يخطئ، من لا يفكر لا يخطئ، من لا يتساءل لا يخطئ، تلك بدهيات لا نقاش فيها، ولكن لِمَ يريد إله المتشدد من الإنسان ألا يجرب ويخطئ؟ لِمَ يريده أن يحاذي الحائط من حياته إلى مماته دون أن يُعمل عقلاً أو يحقق وجوداً؟ تبهرني العلاقة العدائية بين المتشدد وربه، فكأني به يعبد ربه ليتقي العذاب والأذى وسوء المصير، فهل هذا هو الإله الذي يبشرون به الناس؟ ألا يرون كيف يتحول الخوف يأساً ثم غضباً بعد حين بعدما تستنفد طاقة الإنسان في الخوف فلا يبقى سوى المرار اليائس الملقي بصاحبه في التهلكة؟ سندفع كلنا ثمن هذا المرض النفسي العضال المستشري بين نوابنا وقياديينا، والذي امتد ليبث الرعب والخوف في قلوب أفراد “الداخلية” الذين عوضاً عن حمايتنا من هؤلاء المرضى، إذا بهم يجارونهم اتقاءً لشرهم وإسكاتاً لصوتهم الذي ما إن يصدح حتى يفتح النار في الجميع طائفياً وعنصريةً وتطرفاً مريضاً يعطب القلب والعقل.
سندفع كلنا الثمن، سندفعه من أمننا وراحتنا ثم من سعادتنا وبالتأكيد من كرامتنا، فنحن اليوم أسرى فكر، رقيق مأمورين من “أصحاب” الدين، هم يأمرون فيطاعون، يلغون حفلاً، يمنعون مؤتمراً، يغلقون معرضاً، يخرسون لساناً، يحبسون جسداً، ولن يعاني أحد مثلما ستعاني المرأة، فهي أولى الضحايا، ستسبى، نعم ستسبى، سيغتصب عقلها، ثم جسدها، فكلاهما حق من حقوق المتشدد لا يمكن الاعتراض عليه.
لكنني مخطئة، فهناك من سيعاني أكثر من معاناة المرأة، إنها تعاليم الدين السمحة الرقيقة، والخالق العظيم الجليل، الذي فلسف هذا الكون الرائع فلسفة فكرية وفيزيائية خارقة، هذا الخالق الكامل المتجلي في كل ما حولنا من البكتيريا اللامرئية إلى منظومة الكون اللامتناهي، هذا الخالق العطوف بتعاليم أديانه المختلفة المُحِبة للحياة والداعية إلى التسامح والتواد والتعايش، كل هؤلاء هم من سيعانون أسوأ نتائج التطرف، لكنهم لا يمكن أن يخسروا، فالحق لا يخسر والخالق لا يخسر وإن عانت المنظومة الفكرية في ظل التشدد المؤقت. ليست حرب المتشددين معنا، دعاة الحرية والمدنية، ولكنها مع الخالق في الواقع، وبما أنها مع الخالق، فهي إذن مع المنطق والعقلانية وكل ما يترتب عليها من تطور للإنسان ومن تحقيق لسعادته. المستغرب أن تدور رحى هذه الحرب على أرض الكويت، تلك الأرض التي كان يجب أن تكون أرض الخلاص أصبحت في الواقع الساحة الأولى للمعركة، بل جند المتشددون أهلها وحكوماتها وحتى عناصرها الأمنية لخدمة حربهم، حرب لن يربحها أحد ولن ينجو منها أحد.