في مقاله المعنون “اليسار كما اليمين: لماذا يكره المتطرفون الوسطيين؟” والذي تم نشره على موقع “منشور”، يناقش عمرو صبحي التطرف الذي ضرب اليسار فكريا مؤخرا وذلك بعد أن انحسر عنه العنف الجسدي “بشكل تام في المرحلة التاريخية الحالية”، حيث يرى صبحي أن هناك مغالاة في الخطاب اليساري “أنتجت إرهابا فكريا يساريا مشابها تماما لنظيره اليميني، يرتكز على الظاهرية اللغوية والمزايدة واحتكار الكود الأخلاقي”.
أتفق مع الكثير مما جاء في المقال، ففي الواقع، ارتفاع الحساسية اللغوية الحالية واستقواء ظاهرة الصوابية السياسية أو political correctness إلى حَدٍ تسبب في خلق واجهة كوميدية للقضايا الحساسة هو أحد مظاهر ما يمكن تسميته مجازا بالإرهاب اليساري، وإن كنت أتصور المصطلح أقوى بكثير جدا من الظاهرة كما وأعتقد أنها، أي هذه الظاهرة، لا ترتبط فعليا بأيديولوجية بقدر ما هي مرتبطة بزمن ونمط تفكير.
على سبيل المثال، هناك محاولة ساذجة لا تبدو فعليا علمية أو لغوية تركيبية رصينة لإيجاد بديل بالإنكليزية للضمير المذكر أو المؤنث ليجمعهما ويوحدهما. تطورت هذه المحاولة إلى حركة فكرية عنيفة نوعا ما دفعت بأصحابها للتنمر على الآخرين في ظاهرة عكسية لما يحاولون محاربته، هذه المحاولة العنيفة ما هي إلا نتاج “للمغالاة” كما يسميها صبحي وانعكاس لضيق أفق ينحو للتعصب للرأي الذي يفترض، أي التعصب، أنه يتنافى مع أي أيديولوجية تدعي التقديمة والتحرر.
إلا أن المقال اتخذ انحناءة مختلفة وحادة بالنسبة لي حين ذكر الحساسية اليسارية تجاه موضوع المرأة ومن خلال ذات المنطلق النقدي. لربما أنا منحازة لبنات جنسي ولربما أنا أعاني من التعصب اليساري، لكن واقع الحال أن صبحي هو رجل يكتب عن تجربة لم يمر بها ولم يستشعر في يوم ثقلها التاريخي الرهيب على كتفيه.
ينتقد صبحي تحول “أي دعابة ساخرة إلى تنمر (Bullying)، وأي مجاملة إلى تحرش، وأي نقد للنسويات إلى ذكورية وتسلط” ذلك أن صبحي لم يختبر هذه الممارسات في واقعيتها وانعكاساتها ورسائلها المعلنة والخفية، لم يعرف لها طعما في حياته ولا أثرا على مجريات هذه الحياة.
الدعابة الساخرة تتحول إلى تنمر في الواقع حين يصبح من المقبول والمعتاد رمي الدعابات الجندرية والجنسية المهينة، وبوجود النساء، والتي عادة ما تدور حول الضجر من المرأة أو الرغبة في غيرها، باستمرار وفي كل مناسبة وبكل الأساليب، من باب أن هذا مزاح متعارف عليه وبريء، مجرد مشاغبة بين الجنسين. إلا أن واقع الحال أن لا صبحي ولا في الغالب أي رجل شرقي آخر سيقبل أن تجلس مجموعة من “نساء بيته” ليتبادلن الدعابات حول مغامراتهن ولو كانت غير حقيقية أو إعجابهن بفلان أو رغبتهن في علان ولو كانت مجازية. ستتشكل معضلة ضخمة فيما لو عبرت هؤلاء النساء مثلا عن رغبتهن في تطليق الرجال وتبديلهم بمن هم أجمل أو أقوى أو حتى أكثر غنى، خصوصا إذا ما اتخذت هذه الدعابات صفة الاستمرارية والعلنية التي تحولها إلى ممارسة اجتماعية طبيعية ومقبولة كما هو الحال مع الدعابات الرجالية.
أبعد من ذلك، غالبا ما تتحول هذه الدعابات إلى مواد إعلامية لجذب المشاهدين ولفت انتباههم، مما يعزز الفكرة التي تبدو مجرد مزحة ويحولها إلى ممارسة مقبولة بل ولطيفة. لا أنسى أبدا هذا الإعلان، الذي شرط قلبي بسكين، لموبايل جديد في السوق. الإعلان أظهر رجل تتعلق امرأة كبيرة في السن بيده، ليقول الراوي للإعلان بضرورة “تغيير القديم” أو لفظة من هذا القبيل، لتظهر لاحقا على الشاشة صورة الرجل نفسه وقد تعلقت في يده امرأة شابة في فستان الزفاف. ذكرى هذا الإعلان تؤلمني، فهو دوما ما يستحضر في ذاكرتي عذابات وآلام جدتي التي لطالما سمعتها تتكلم عنها واصفة روحها وقلبها بعد أن تزوج عليها جدي وجلب لها امرأة أخرى تشاطرها حياتها.
كانت جدتي تعشق جدي الذي لم يتردد في استبدال “الموبايل القديم بجديد”، إلا أنه خلف “الشاشة القديمة الباهتة” يرقد قلب محب عاشق صادق وحنان يغرق قارات الأرض وآلام غيرة وقهر لزوجة أفنت حياتها في خدمة هذا الرجل، فقدمت له إحدى عشر ابنا وابنة، لينطلق هو بلا تردد نحو “الموبايل الجديد”. مؤذي تعبير الموبايل المستخدم للإشارة للنساء؟ ما هو سوى مجرد مزحة! جدي، رحمه الله كان رجلا رائعا، ليبرالي متحرر تقدمي التفكير سابق بكثير لجيله، إلا أن مجتمعه ومحيطه زرعوا الفكرة في وجدانه، لترسخها الضحكات والدعابات، ولتبررها المفاهيم القديمة الحاضرة دائما عند الحاجة إليها، ليحول كل ذلك جدتي، رغم محبته الكبيرة لها، إلى متعة حياة قابل للتطوير والتبديل.
أما المجاملة فهي أبدا لا تتحول إلى تحرش، ذلك لأن كلمة مجاملة تستدعي رضاء الطرفين، المجامل والمتلقي. أما أن يفرض طرف مجاملة فيم الطرف الآخر يتحرج منها أو يحاول تفاديها أو يتكور فعليا، جسديا وروحيا، على نفسه في محاولة لحماية نفسه منها، فتلك ليست مجاملة، هذا تحرش شرس. الأستاذ صبحي لا يعرف معنى ذلك لأنه لم يمر به، لم يعرف معنى النظرة الثاقبة الشهوانية المقززة وهي تتبعه في مكان عام، لا طريقة لردها ولا مجال للتصريح العلني بالتقزز منها، وكيف يمكن إثبات هذه النظرة؟ وماذا سيقول الناس إذا ما صرحت امرأة بأن أحدهم ينظر لها بانحطاط؟ سيكون رد الفعل متعاطف مع الرجل الذي لم يكن سوى ضحية لمبالغات المرأة كما هو المعنى المتضمن في المقال.
الأستاذ صبحي لم يعرف معنى أن يفرض عليه آخر كلام غزل، مهما بلغت درجة تأدبه، هو غير راغب به، مرارا وتكرارا، ليتخذ هذا التعدي على الخصوصية والوقاحة في التعامل الصورة البريئة لمجامَلة رقيقة. كيف تكون مجاملة وهي مفروضة على الطرف الآخر وهذا الآخر متحرج مجروح نافر منها؟
المجاملة تتحول إلى تحرش إذا كانت مرفوضة وإذا ما استمر بتقديمها الرجل رغم ظهور علامات الرفض لهذه المجاملة أمامه. “لا تعني لا”، “لا” ليست تدللا أو طلبا للمزيد. كما وأن الاعتقاد أن رفض مجاملة قسرية مهما بلغ “لطفها” هي مبالغة فتلك مشكلة مبدئية، حتى لا أقول أخلاقية، عميقة المعنى حادة النتائج. لطيفة أو غير لطيفة، مؤذية أو غير مؤذية، إذا كان هناك رفض لمجاملتك فمن الأفضل والأكثر أخلاقية أن تحتفظ بها لنفسك.
أما نقد النسويات فهو المجال القديم المتجدد للسخرية الرجالية، حتى لا أقول الذكورية فيرد عليّ حديثي بأنه انعكاس للحساسية موضوع المقال. النسويات في العالم عموما والعربي منه خصوصا يمشين في طريق وعر مظلم لا يمكن وصفه في يوم للأستاذ صبحي، ببساطة لأنه ليس امرأة. المرأة النسوية، وحتى اليوم، متهمة مباشرة بأنها متطرفة، كارهة للرجال، مسترجلة، غير قادرة على تكوين أسرة، حادة إلى درجة العته الفكري، وهذه الصورة ليست مبالغة، هي الصورة الحقيقية التي تعيشها كل امرأة أطلقت خطابا نسويا ذات يوم.
يضيف الأستاذ صبحي أن “المبالغة في رغبة رؤية المرأة في المناصب والشركات والمهن والصناعات والقطاعات كافة (وهو مطلب مشروع)، وإرجاع أي اختفاء أو ندرة لها إلى وجود إقصاء منهجي بالضرورة (وإن كانت هناك احتمالات لذلك)، لا يصب إلا في مصلحة الذكوريين مباشرة، إذ يكون الاهتمام محصورا في التمثيل، وليس في تغيير بيئة العمل بشكل يضمن تساوي الفرص”. “تساوي الفرص”، يا له من تعبير سهل إلقائه لتبرير الانحيازات الاجتماعية والعملية تجاه المرأة.
كيف يمكن أن يكون هناك تساويا للفرص في بيئة العمل، المرتبطة ارتباطا مباشرا بمحيطها الاجتماعي والأيديولوجي كافة، إذا لم يكن للمرأة فرصة في تساوي الفرص منذ لحظة مولدها؟ هل تتساوى فرص المرأة في التعليم وفي الزواج وفي حرية الطلاق وفي مسؤوليتها تجاه البيت والأولاد وفي حواجزها الاجتماعية والشرفية والسمعاتية حتى تتم المطالبة بتساوي الفرص العملية دون وجود “كوتا” مثلا تضمن شيئا من حقها المهدور؟ ومع الانحياز الفكري والمجتمعي حول طبيعة المرأة البيولوجية وقدراتها الفكرية والعملية، هل سيكون هناك أي تحقيق لمفهوم تساوي الفرص تجاه المرأة؟ كيف يمكن لأحد أن يكتب مطالبا “بتساوي الفرص” في الاتجاه المعاكس للمرأة؟ غريب المنطق جدا.
لا شك أنني أتفق مع الكثير مما جاء في مقال الأستاذ صبحي حول المبالغات اليسارية الحالية، وأي أيديولوجية يتبناها البشر لا تنحو للمبالغة والتهويل؟ في الواقع، تكاد كل أيديولوجية، مهما ابتعدت عن الدين، تتحول على أيدي أصحابها إلى ثيولوجيا مقدسة، يدافعون عنها بشراسة وسذاجة حتى يفرغونها من محتواها، وليس اليساريون باستثناء، فهم بشر على كل حال.
لكن، أن يتم ضرب أمثلة المبالغات في موضوع المرأة تحديدا، هذا الموضوع المتوارث القديم الرابض على أكتاف النساء جيلا بعد جيل حتى أكاد أرانا جميعا، بكل اختلافاتنا الاجتماعية والأيديولوجية، نعرج أسفل أثقالها المعلقة على رقابنا وظهورنا، فهذا مضرب مثل غير موفق. أن تختار الفئة البشرية الأكثر معاناة، الأكثر انعزالا، الأكثر تعرضا للعنف، الأقل حرية لتضرب الأمثال من خلالها على المبالغات الأيديولوجية، فهذه ليست فقط عثرة فكرية، لكنها عثرة إنسانية كبيرة، لربما الأستاذ صبحي لا يحاسب عليها بالكامل، هو على كل حال لم يكن امرأة في يوم.
رحمك الله يا جدتي، رحم الله قلبك الذي توقف مكلوما ونضبك الذي خفت ألما وأصابع يديك التي لا أزال أتذكر ارتعاشاتها الموجوعة، ماذا كنت لتقولين لخطاب يطلب منك سعة الصدر على الدعابات حول الزواج بأخرى أو ذاك الذي يطالبك بألا تبالغي لنضمن للرجال تساوي الفرص؟ ترى، بفارسيتك المحببة الجميلة، بماذا كنت لتردين؟