أنا طائفية!

مع خالص اعتذاري، سيكون هذا المقال شخصياً وشخصانياً ودفاعياً وطويلاً
في مايو 2011 حين قُتل بن لادن على أيدي الأمريكان، لم أجد في الخبر ما يُفرح مطلقاً، وهو ما أشرت إليه في مقال وقتها، لم أجد في طريقة قتله وما أشيع عن رمي جثته لاحقاً في عرض البحر ما يبهج، خصوصاً إذا كان القاتل أسوأ وأشد طغياناً، وتحديداً لأن هذه الحادثة كانت مؤشراً على قادم مفزع على يد الإدارة الأمريكية. الفرح يستدعي إصلاحاً أو خيراً أو تحولاً مؤثراً، أما القتل، ولو كان مستحقاً -ولا أجد القتل مستحقاً على يد بشر- فهو لا يستدعي سوى الحزن والأسى.
وفي أكتوبر 2011 حين قُتل القذافي على يد أهل بلده المقهورين، لم أجد في الخبر ما يبشر بأي خير، وهو كذلك ما أشرت إليه في مقال وقتها، لم أجد في طريقة قتله ما يمكن أن ينعكس بأي إيجابية على الداخل الليبي، ذلك أن القتل لا يؤثر على الميت، إنما على الحي، على نفوس المتورطين في الفعل والمستقبلين له، مؤسساً لفكرة أخذ الحق باليد وتبرير العنف واستسهال الانتقام المعفي من المحاكمة والتقييم.
بلا شك، لم يأتني خير من هذين المقالين، ذلك أن الناس كانت قد حكمت وحاكمت وانتصرت للتنفيذ، وما مخالفتي لهكذا حكم جمعي سوى، قد بدا من ردود الفعل تجاه المقالات، تساهل مع القاتل وتغافل عن آلام المتضررين منه، كما نوهت إحدى القارئات حول رأيي في مقتل القذافي.
فكيف إذن، وأنا التي لم تفرح في بن لادن أو القذافي، يمكن لي أن أجد سبباً انتقامياً أو تقييمياً يجعلني أستحسن اغتيال إسماعيل هنية أو حسن نصر الله، أو أتجاهل فظاعة هذه الاغتيالات وكارثيتها وعظيم أثرها على المقاومة الفلسطينية؟ كلا الاغتيالين كارثي بكل ما للكلمة من معنى، كلاهما صنع شرخاً في جدار المقاومة وشكل انتصاراً ولو مؤقتاً للكيان الصهيوني، إلا أن كليهما عبر كذلك عن مدى تأثير المقاومة بطرفيها، حتى إن الصهاينة الجبناء لم يجدوا مخرجاً سوى اقتناص الرؤوس، ليظهر مكان الرأس ألف آخر، ولتستمر المقاومة أقوى وأكثر اندفاعاً، ذلك أن العدو الصهيوني لا يفهم أن هذه المقاومات، كما يقول د. عبدالله العقرباوي الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، إن هي إلا مشاريع شعبية، هي من الناس وإليها، هي قرارات العامة لا قرارات القيادات والحكومات.
وقد تحدث د. العقرباوي في مقابلة له مطولاً، عن تميز السلطة الحمساوية في غزة، لأنها ليست سلطة حاكمة بأي معنى تقليدي متعارف عليه، حيث لا مسافة فاصلة بينها وبين الشعب، حماس هي أهل غزة، وأهل غزة هم حماس، كل بيت غزاوي قدم لحماس مقاوماً، كل بيت غزاوي خدم حماس وساهم في مشروعها الذي هو في أصله مشروع شعبي بحت، لا يفصله عن الناس خطاب سياسي أو أسلوب حكم متعال. تحدث د. العقرباوي كذلك عن حزب الله كمشروع مقاومة لربما هو الأهم بعد حماس، منوهاً بأنهم بدأوا بالتحرك مع حماس يوم 8 أكتوبر، يوماً واحداً بعد بدء طوفان الأقصى، مثبتين أنهم صادقون في توجههم المقاومي، خصوصاً بعد تقديمهم لحسن نصر الله قتيلاً في حركة المقاومة هذه، فما هو المطلوب منهم أكثر من ذلك، يتساءل العقرباوي، لإثبات صدق توجههم؟
بكل تأكيد، لا يوجد حزب سياسي ذو ذراع عسكرية في العالم كله وعلى مدى تاريخ البشرية بأجمعها بريء من القرارات والتوجهات التي قد ترقى لحد الإجرام والفساد، ذلك أن تمويل مثل هذه الأحزاب بعملياتها العسكرية لا يمكن أن يكون طاهراً بالمطلق، بداياتها لا يمكن أن تكون نقية تماماً، وإنجازاتها نادراً ما تخلو من تنازلات مبدئية قد تتضارب وقيمها العامة. لكن الحزبيين الطائفيين لا يستطيعون تخطي ولاءاتهم إلى حيث رؤية أنقى وأكثر حياداً، فظهر من يبرر لدور حزب الله في الداخل السوري على أنه مقاومة لحراك سني متطرف، مثلما ظهر من يبرر مساندة حماس للسلطة التركية في موقفها من الأكراد، ومثلما تم تبرير قمع التظاهر البحريني، الذي تزامن في مفارقة مهمة مع الأزمة السورية، على أنه مقاومة لحراك شيعي متطرف خطير كذلك. وهكذا، يبرر الطائفيون «لجماعتهم» ويشيطنون الطرف الآخر في استعراض لعمق التطرف الطائفي عندنا في المنطقة الشرق أوسطية.
وكوني خليجية متحدرة من أسرة شيعية، أضطر الآن، وفي كل مرة أضطر، أن أسوق الدلائل على عدم طائفيتي؛ فأذكر، وها أنا أعيد الذكر، أن موقفي المناهض والناقد بقسوة لحزب الله في 2006 في سلسلة من المقالات كلفني الكثير اجتماعياً، وكاد يكلف والدي ما هو أكثر من ذلك، وأن نقدي لنظام الملالي الإيراني ولأذرعه السياسية والعسكرية، التي إحداها هو حزب الله، رغم معرفتي التامة باضطرار الحزب لقبول التمويل الإيراني لقصور الأيادي العربية عن مد يد العون لحزب صد ورد عن الجنوب اللبناني، قد تبلور في موقف مقاطع لم يتخذه حتى السنة من حولي. وكم كنت غبية حين اتخذت موقفاً من الحكومة الإيرانية ولم آخذ مثيله تجاه الحكومات الغربية بل وبعض العربية، كم كنت ساذجة وأنا أعتقد بنفسي الثبات على المبدأ ولو كان مكلفاً في نقدي العنيف لحزب الله وفي موقفي تجاه حكومة إيران حين كانت تلك الحكومات أولى بذلك ألف مرة، وكم أنا لا أزال أهدر من الوقت والجهد محاولة إثبات أنه المبدأ لا الطائفة التي تسوق رأيي. أما حان أوان الاستسلام بإعلان طائفيتي المتسترة والانتهاء من كل هذا «الهبد؟».
وعليه أؤكد، حكومة إيران أفضل من حكومات عدة حولنا حين بادرت بموقف عسكري ولو كان للحفاظ على مصالحها وماء وجهها، حماس وحزب الله ذراعا مقاومة عظيمان وليسا حزبين إرهابيين. نعم، قاما بفظائع في الماضي، ربما حزب الله تفوق في ذلك على حماس، لكنهما اليوم ذراعا مقاومة تستحقان الشكر والعرفان والمساندة. حزب الله وحماس متورطان في ماض قمعي؛ هذا ساند النظام السوري ضد شعبه المدني، وذاك ساند النظام التركي ضد المدنيين الأكراد، وتلك فقط القصص الواضحة. لكننا اليوم لا نقيم الحزبين على أنهما حزبان سياسيان ولا على أنهما مشروعا حكم قادمان، إنما نقيمهما كمشاريع مقاومة ناجحة، خرجت من الناس وإلى الناس. وإلى أن نجد حركات مقاومة نقية تقية ذات ماض ناصع وتحرك حالي ساطع لنؤيدها ونقف خلفها ضد الصهانية، سنبقى نساندهما ولو كره الطائفيون.
وحتى نكشف الصلعة كاملة، كتب أحدهم يحرجني بكويتيتي: «يعني إللي كان يفرح بموت صدام عنده مشكلة بمنظومة مبادئه؟» وردي هو طبعاً، الفرح في الموت ولو كان موت طاغية، يشكل مشكلة مبدئية. أي فرح هذا الذي تستشعره في موت قائد عربي فقد عقله واحتل جاره ودفن شعبه في مقابر جماعية، وأدخل بلده في حرب مهلكة، ليموت بعدها موتة مهينة أمام العالم أجمع، ويضعنا تحت رحمة الأمريكان ويملأ منطقتنا بمقراتهم العسكرية؟ إذا كنت تفرح في بداية أو وسط أو نهاية هذه القصة، فبلا شك أنت لديك مشكلة، وأنا طائفية، خلصنا؟