هي تبحث عن وطن جديد، وأنا أبحث عن وطني من جديد، هي حزمت أمرها، وأنا بعثرت أمري على قارعة الطريق، هي تبحث عن مستقبل ما في مكان ما، وأنا أبحث عن الكويت في مستقبل ما. هي تعبس للنهايات وأنا أبتسم للبدايات. هي ترفع راية الاستسلام البيضاء وأنا ألوح بأصابعي علامة النصر، تضحك هي مني: “أنت بلهاء”، فأجيبها مناكفة: “ربما، لكنني سعيدة كذلك”.
أنا سعيدة لأنني أدرك صغري اللامتناهي في هذا الكون الشاسع، وأن آلامي وآمالي وأحزاني ما هي إلا ذبذبات خافتة هامسة في “ديسكو” الدنيا الصاخب، أدرك أنا برضا أنني سأمضي في يوم وتستمر الدنيا على حد تعبير شاعري الأول عمر الخيام:
نمضي وتبقى العيشة الراضية
وتنمحي آثارنا الماضية
فقبل أن نحيا ومن بعدنا
وهذه الدنيا على ما هيه
ولربما سيبدو لي عندها، في درجة من درجات الوعي، أن الدنيا انتهت وأنني أستمر، فتلك هي طبيعة مركزية تفكير الإنسان المنطوية على أنانيته الفطرية.
أقرأ أنا الدنيا بآلاف سنواتها، وتقرؤها هي بالشهور، فتبدو لها الحياة بطيئة حزينة غارقة في وحل الخراب، أذكرها أن سنواتنا ما هي إلا لحظات في زمن الكون الشاسع، وما هي إلا لمحات في التاريخ الإنساني الممتد. سبقنا أناس عاشوا تاريخاً مطابقاً لتاريخنا، ارتطموا بالقاع ثم صعدوا، قبلنا عاشوا وعانوا، حُجر على آرائهم، قُمعت حرياتهم، باسم الأديان سالت دماؤهم، أُغلقت مسارحهم ومعارضهم، تعذب فنانوهم ومبدعوهم وفلاسفتهم، ضاقت دوائرهم وقل هواؤهم، بعضهم توقف عن التنفس، والبعض الآخر أصر على سحب الأنفاس حتى آخر لحظة، هؤلاء البلهاء بعبط آمالهم وفراغ شهيقهم يحدثون فرقاً ولو صغيراً، يملؤون فراغاً ولو منمنماً، هؤلاء أحب أن أكون معهم، أحب أن أحدث فرقاً وأملأ فراغاً وآتي بلاهة تتراكم تغييراً عبر السنين.
هي تكتفي، تبحث عن مكان تعيش فيه لا يهزم آدميتها، لا يهين أنوثتها، لا يحجر على عقلها، وأنا أبحث عن آدميتي وأنوثتي وعقلي في هذا المكان، هي مبتغاها مكان فيه مبدأ وأنا مبتغاي مبدأ أصنعه في المكان، هي تسعى إلى حياة لا تفنى دقائقها في صراع وأنا أسعى إلى دقائق لا تفنى في اليأس، فمن منّا ستكون أسعد؟
نحن نعيش مخاضاً عسيراً ذاته عانته أوروبا وهي تخرج من الظلمات إلى النور. كان في أوروبا رجال سياسة ودين قهروا الناس واستعبدوهم، كان هناك هيئة أمر بالمعروف، وكان هناك رجم وصلب وجزّ وحزّ، كان هناك فنّ مقهور وأدب معقور وفلسفة مكفرة وعقول معفّرة، ولكنهم نجوا لذات الأسباب التي ستنجينا، آمالنا وأحلامنا وعشقنا الإنساني الفطري للحرية وحرصنا الغريزي على البقاء.
سننجو ذات يوم فيتذكر التاريخ بلاهة الأمل، وينسى تماماً عقلانية اليأس والاستسلام، فابقوا ونبقى، فهنا نصنع التاريخ ويصنعنا، هنا نحن البلهاء المتفائلون، التفاؤل الأبله ألف مرة فوق الاستسلام الحكيم، فلا خير في حكمة تشردني وتحبط عزيمتي وتربط آمالي وأحلامي.
لا تهاجري يا صديقتي، لا تهاجري، فهنا مربط الأمل، هنا الأهل والخلان، هنا شارع الخليج والأبراج و”الآفينيوز” و”سوق الكويت” ومبنى عبدالله العتيبي في كلية الآداب، وممشى مشرف وبر كاظمة، هنا دنيا كاملة دائمة، فلا يهزمنّك نفر زائلون.
لا تهاجري، فأنا باقية.