سألني شاب لطيف كان يجري معي مقابلة قبل فترة: “من هي ابتهال، عرفينا عليها”، هذا السؤال الكليشيهي الميلودرامي الذي كثيراً ما يتكرر في المقابلات، والذي يفترض أن تكون إجابته حاضرة في الذهن، لأتمتم أنا بكلمات مائعة لا طعم ولا معنى لها، ولأكتشف أنه ليس لدي فعلياً أي جواب لهكذا سؤال، وكأنني لأول مرة أفكر من أكون وفي القيمة (من عدمها) التي يفترض أن أصطبغ بها وأقدم نفسي من خلالها.
والليلة، ليلة كتابة المقال، أتمدد وحيدة في سريري محاولة كتابة مقال بمناسبة مرور 32 سنة على زواجي من هذا النائم حالياً في مكان ما في شرق القارة الأوروبية. ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها مقالاً شخصياً، وعن رجل حياتي بالتحديد، إلا أنني الليلة صافية الذهن من كل التفاصيل، وكأن حياتي مثل شخصي مسطحة وبسيطة وثنائية الأبعاد. تراه مرور الزمن الذي يبسط الماضي تجريداً إلى أبسط أشكاله فيجعلنا ننظر له كأنه خط بسيط ممتد خلفنا أم تراها تشعبات الحياة التي تعقد الماضي فتجعلنا ننظر له على أنه مكعبات متداخلة لا يمكن بحال توصيفها أو الحديث عنها؟ حياتي بكل تعقيداتها والتواءاتها وأسرارها وخباياها وآمالها وأحلامها وخيباتها وآلامها، قصة حبي الممتدة لما يزيد على الثلاثين سنة بكل دقائقها، انتصاراتها وإحباطاتها في مقال؟ هل هذا ممكن؟
هناك الكثير من التقليدي في حياتنا أنا وزوجي، فالحياة بتفاصيلها ويومياتها تفرض علينا تقليدية العيش، تقليدية الحب والغضب والنزاع والتراضي والتوقعات والخيبات، إلا أن هناك الأكثر من غير التقليدي، من المختلف تماماً، لربما كحال معظم الشركاء، في علاقتنا هذه الممتدة لما يزيد على الثلاثة عقود. لم أعرف أنا في يوم مثلاً سر اختيار زوجي لي، هذا الرجل الذي يفوقني ذكاء وجاذبية وخفة ظل بمراحل بعيدة، مما شككني في نوايا الحياة تجاهي وحقيقة وجهها الذي لم تكشفه بعد لي. منذ صباي وأنا عجوز، عجوز في كلامي، في ذوقي في الأشياء من حولي، وحتى في تصرفاتي ومزاجي، لم أعرف أبداً شعور أن أكون محط نظرات إعجاب أحد أو لم أنتبه لذلك، ولم أكن حتى محط نظرة إعجاب من نفسي. لم أتصالح أبداً مع جسدي هذا الذي بدا دوماً، رغم يفاعته وصحته اللذين لم أقدرهما حق قدرهما، حمل ثقيل أجرجره خلفي، ذلك أنه لم يتصالح أبداً ومقاييس زمن صباه، ليبقى غريباً عن مفاهيم الجمال، مغترباً عن نفسه ومحيطه.
أضاحك زوجي دوماً “والله أنك مخبئ لي مصيبة”، فيرد بهدوئه المعتاد “نعم، أطبخ المؤامرة لي سنوات الآن.” أكرر سؤالي الذي لم يتوقف أبداً “لماذا أنا؟” فتتعلق الكلمات رطبة كبقايا يوم ماطر بيننا، هو لا يرد وأنا لا أكف عن الترديد. أحفظ عن ظهر قلب تفاصيل يومه وأعشقها، حتى أنه إذا غير شيء منها لطارئ ما أنزعج ويتشتت انتباهي. يقضي هو معظم يومه، من ظهره إلى مغارب ساعاته في ورشته التي أسسناها بعد تقاعده عن العمل، يقطع الأخشاب ويصيغ المصنوعات ويشكل أشياء خلابة كلها تحمل شيئاً من روعة روحه. أطرق أنا بابه أوقاتاً عدة خلال اليوم لسبب أو دونه، أشرب معه كوب قهوة، أنفس عن غضبة، أحتضنه بلا سبب وبلا كلمات، لتنتهي ساعات الورشة عند السادسة والنصف مساءاً حين أناديه إلى مائدة العشاء. يخرج من الورشة على تتابع نداءاتي تعباً أكلح الهندام، مغطى بنشارة خشب رقيقة بت أعشق تبعثرها في أنحاء البيت. تستثيرني جداً الأيام التي ينتهي فيها من عمل ورشته بوقت أسرع ليصعد يستريح في مكتبه، هذه أيام فيها إخلال بتفصيل دقيق، فيها تخريب للخطوات المحسوبة ولشعور الأمان المستتب فيها. يضحك هو من هذه الغضبات المكتومة المجنونة، “ما الفرق بين أن أخرج من الورشة أو من المكتب بالنسبة لك؟” الفرق هو شعور عارم بالأمان، أن أجدك حيث أتوقعك، دائماً.
تفاصيل صغيرة منمنمة تصنع الحياة، ومواقف كبيرة مزلزلة تخلق أعمدة تسند سقف حياتنا كلما تجاوزنا صعوباتها. وهو بتفاصيله، هو كل الحياة وكل ما لها من معنى. أعلم أن هذا ضعف خطر، أن تبتهج حياتي بدشاديشه المعلقة في دولابه، بآلة حلاقته، بأجهزته الكهربائية، بأقلامه وأوراقه على مكتبه، وبوجودها كلها بالضبط في مكانها بلا أقل تغيير. أعلم أن هذا ضعف خطر، أن أحب حد الاختفاء، أن تترتب حياتي على تفاصيل حياته، أن أعتمد على كلماته ورائحته وأشيائه أن تبقى كلها كما هي في مكانها ليستتب الأمان ولأبقى أعرف كيف أعيش. ليس هذا حباً صحياً وليست تلك حياة آمنة. إذا كان غياب منشفته عن مكانها إبان سفره الحالي يخلخل يومي ويبعثر كل مشاعر الأمان في قلبي، فأي صلابة متحققة لحياتي وأي بُعد خاص خلقته أنا لها؟ ذبت أنا في حياة شخص آخر خلسة، أي مصيبة هي تلك؟
كشف متأخر هو هذا، نقد لا معنى له ولا فائدة منه بعد اثنتين وثلاثين سنة من التشابك المعقد والاعتماد المفرط والتعلق العصابي بأهداب تفاصيل حياة هذا الرجل كلها. لربما لم يبق لي الآن سوى أن أصلي ألا تنكشف المصيبة التي لا زلت أتهمه “بطبخها” لي، أن تبقى التفاصيل كما هي، والإيقاع كما هو، وهو كما هو. مقالي تائه مثلي في غيابه، أنتظره يعود فأعاود أنا محاولة كتابة نص مفهوم. كل أيامك وأعوامك بخير وسعادة يا حبيبي.