لا يمكن أن يكون التوجه طبيعياً ونوايا أصحابه صادقة إذا ما أظهر أي صورة من صور التطرف، فعندما يغرق نائب الأمة في عدائه للحكومة فهناك مؤامرة، وعندما تغرق الحكومة في لا مبالاتها وتسيبها فهناك مؤامرة، وعندما يغرق الإعلام في ابتذاله والنيابي في علو صوته وشتائمه فهناك خطة رخيصة محكمة، وعندما يغرق المتدينون في تطرفهم فهناك نية مبيّتة وعندما تغرق السياسة في تدليل المتطرفين المتدينين فهناك قنبلة موقوتة.
هكذا هو الإغراق في رأيي، هو مؤامرة أصحابها يبيّتون النية بدفع الناس في لجة من غضب أو لا مبالاة أو شتائم أو ابتذال أو عداء في تعقيد صارخ للحياة الطبيعية حتى يتحقق هدف شرير فظيع. بلا شك، لا يخلو أي مجتمع من الصور السلبية المذكورة، إنما تتحول هذه الصور من سلبيات إنسانية طبيعية تتلازم في كل مجتمع إلى مؤامرات متى ما كان هناك إغراق، ومتى ما تحولت السلبيات العرضية إلى ظواهر ثابتة خبيثة.
ومما يزيد الوضع خطورة ومأساوية هو أن هذه الظواهر لا تستقر وتلك المؤامرات لا تستتب إلا بمساندة وقبول شعبيين، فمثلاً، الإعلام الرخيص موجود في كل الدول، لكنه لا يطغى إلا بعد أن يلاقي القبول والإقبال، والنيابيون النابون موجودون في كل البرلمانات لكنهم لا يبرزون ويمتلكون الميكروفونات إلا بعد أن يلاقوا صدى لصراخهم وترحيباً بسوقيتهم، والمتطرفون الدينيون موجودون في كل المجتمعات لكنهم لا يسودون إلا بعد أن يتم التنازل عن العقل والاستسلام للرغبات الدفينة والمخاوف العميقة. إذن، كل ما لا يعجبنا اليوم تم بمباركتنا الساعية خلف مصلحة، أو المتكاسلة عن خطأ، أو المرتعبة من وهم. نحن صنعناهم، نواباً يشتمون “بالإفرنجي” ويشوحون بأيديهم مثل “معددات” المقابر، إعلام “يرقع” بالصوت و”يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، برلمانيون لا يؤمنون بالبرلمان ومشرعون لا يؤمنون بالقوانين، رجالات دين يمتهنون الدين، ويمتطون ضمائرنا ومخاوفنا إلى غاياتهم غير النبيلة.
نحن في زمن صاخب ابتذلت فيه الكلمة، وكأني بها فستان فاقع رخيص الألوان مثل ما يلبس هذه الأيام، يثير الأسى خصوصاً عند مقارنته بفساتين الستينيات من القرن المنصرم، حيث الألوان الواثقة والقصة المهذبة والحقيبة والقبعة الصانعتان من كل امرأة أميرة. كلمات اليوم رخيصة القماش، مختلطة الألوان، لم تعد تلبس قفازاً حريرياً أو قبعة بيضاء تخفي نصف العيون الجميلة، كلمات اليوم صاخبة “المكياج” تكاد لا ترى ملامحها الحقيقية من ثقل “الأساس” الباهت اللزج الأبيض بياض الأموات. ولأنها رخيصة فقد أصبحت سهلة، الكل يقتنيها مثل ما يقتني الملابس من فوق أرفف محال الإنتاج الضخم التي ملأت أسواقنا، فأصبحت تصدر من ذات القطعة الرخيصة آلافاً مؤلفة. ولأنه “في الأصل كانت الكلمة”** فعند انحدارها ينحدر كل ما بني عليها.
أقول لمتظاهرينا الراغبين في إسقاط الحكومة، مع خالص الاحترام لحقهم في التظاهر والتعبير عن رأيهم، إن كانت رغبتكم حقيقية، فوثقوها في الانتخابات القادمة، احملوا للبرلمان من تخافه الحكومة ولا تشتريه، احملوا إليه من يتأنق بألفاظه ذات القفازات الحريرية والقبعات الرقيقة، احملوا إليه من تتباهون بهم أمام أبنائكم في المستقبل على أنهم اختياركم وصناع القرار في بلدكم. فإن فعلتم، فستستقم الحكومة وتبدل “شبشبها” المخجل بكعب عال جميل يدق الأرض برقة وثقة، وما إن تفعل حتى يسارع الإعلام ليتسوق في المتاجر الراقية، دافعاً الغالي والثمين من أجل هذه الكلمة الرقيقة ذات اللونين المتناسقين دون أن يلتفت لحظة إلى تلك الصاخبة التي تملأ “الفاترينات” الرخيصة، وما إن يفعل يفلس بياعو الدين بعد أن يفقدوا “بسطاتهم” التي عليها يعرضون بضاعة الخرافة والهوس والتخويف. خيط بجانب خيط، لون يندمج مع لون، نصلح ما أتلفنا ونقيم ما عوجنا.
نحن الضحايا ونحن الجلادون، نحن المشكلة ونحن الحل.