«وأنت تشهد الذبح والحرق والتفجيرات والأشلاء، لا تزال قادراً على قضم ساندويش مكدونالدز أو شرب قهوة ستاربكس؟ لا تزالين قادرة على شراء حقيبة ديور أو حذاء شانيل؟ ما تشعرون به كله مغمس بالدم؟»، هكذا تساءلت أنا في تغريدة على منصة إكس، لتتوالى الردود محملة، فيما بدا، بصراعات نفسية هائلة، وبمشاعر يأس ساحقة، وبالكثير الكثير من الغضب الناتج، غالباً وهذا تحليلي الشخصي، عن الصراع بين الشعور بالولاء للأنظمة المطبعة والاضطرار، حفظاً لماء الوجه، للدفاع عنها، والشعور الإنساني الفطري برفض المذبحة الجارية والفزع الأخلاقي الطبيعي من حرب إبادة تُنفذ أمام العالم أجمع، تفجيراً وحرقاً وتجويعاً وتشريداً واغتصاباً وتعذيباً، أدوات كانت مستخدمة عند أعتى امبراطوريات العالم البائدة في الزمن القديم، والتي أحياها النظام الصهيوني بأحدث الأسلحة جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
من الصعب الشديد أن تدافع عن المذبحة «النيونازية» القائمة حالياً، حين تعدت، مدةً وعنفاً وضراوة، كل الكلام الذي كان يقال في بدايتها من أنها دفاع عن النفس و»رد متكافئ» ومحاولة لإنهاء حركة حماس والتخلص من «أسلحتها الدفينة تحت المستشفيات»، لتتعرى هذه الحرب الإبادية أمام العالم كاشفة حقيقة أنها دفاع عن البقاء في أرض مسروقة، وفرصة «للرد» لإخلاء غزة من أهلها وتهجيرهم بلا رجعة، تماماً كما حدث في النكبة الأولى، و»لتقليل» عدد الفلسطينيين من خلال -تحديداً- قنص الأماكن المدنية: مستشفيات، وملاجئ، وساحات نزوح، ومدارس، ومساجد، وكنائس، وحتى المخابز الصغيرة التي قد تقدم أرغفة الخبز للنازحين المحيطين. لذا، لم يكن من الممكن أن يرد المعلقون على التغريدة بأي تبريرات منطقية، وماذا يمكن أن يقولوا وإسرائيل، بالأموال الأمريكية الأوروبية، تحرق المدنيين في باحات المستشفيات أحياء، تقطع الأطفال أشلاء وتمسح المنطقة إلى أرض مستوية يُدفن تحتها النساء والأطفال والعجائز والرجال أحياء؟ كيف يبررون لجيش مسلح بأحدث وأعتى أسلحة الدمار الشامل يقف مواجهاً أطفالاً وعزل؟
يظهر الصراع النفسي الذي يعانيه الكثيرون، خصوصاً الرازحين تحت مظلة الأنظمة المطبِّعة، في الردود السيكوباتية التي يعتقد أصحابها أنهم بقسوتها وانفصالها عن أي مشاعر إنسانية بالسخرية والإمعان في التعذيب يصدون عن أنفسهم ويحمون داخلهم من قسوة الرضا بالجريمة البشعة القائمة. تأتي الردود هجومية، قاسية، ممعنة في رش الملح على الجرح، وكأن هؤلاء يدافعون عن أنفسهم بالمبادرة بالهجوم. لا بد أن أؤمن بأن هذا هو التبرير، ذلك هو الدافع لأن يكتب البعض جملاً مثل: «لا والله ما نشعر!، دكتورة العشا اليوم بيج ماك حياك، أنا الحمدلله بسبب هالأحداث يومياً يوم ستاربكس يوم ماك، لا ما نشعر أنها مغمسة بالدم بل بالباركيو والتشيلي والغارلك»، لا بد أن أؤمن أن هؤلاء يتعذبون داخلياً، وبالتالي يضطرون لهكذا تعليقات ساخرة قاسية تخلو من الشعور الإنساني الطبيعي، وإلا سيكون هؤلاء المعلقون والبشرية التي تحتضنهم مجرد وحوش في غابة كبيرة بلا قلب ولا عقل ولا ضمير.
آخرون، ممن لم يستسلموا تماماً لوحشية الردود الباردة المستهينة بدماء الأبرياء، انتهجوا منهجاً آخر. لم يبرر هؤلاء لأنفسهم، لم يسوقوا هذه الحجة أو تلك لشراء سندويش أو حقيبة، لكنهم استخدموا أسلوب «شوفي نفسك أول، وكلنا في الهوا سوا»، حين عكسوا الاتهامات باتجاهي: أنت تستخدمين منصة إكس الداعمة لإسرائيل، سيارتك وتلفونك وكل استخداماتك من شركات داعمة، «شوفي من باروكتك إلى أخمص قدميك» رغم أنني لا ألبس باروكة، إلى آخرها من تعليقات لا تصد عنهم ولكنها تعكس السلوك ضدي، وكأنني أنا المقياس، وكأن ممارستي التي يدعون تبرر ممارستهم وتنقّي خياراتهم. لا يستوعب هؤلاء أن قاعدة «ما لا يدرك كله لا يترك جله» هي قاعدة حياتية مهمة تملأ فراغات ضعفنا واحتياجاتنا وتَكَبّر الدنيا علينا، هي تنقذ مبادئنا وتحيي الأمل فينا لأن نبقى نحاول، علناً في يوم، وإن كان يوماً بعيداً عن البشرية، نبلغ الأمر جله.
شخصياً، أتبع نصيحة حركة المقاطعة العالمية BDS وأزيد عليها بعض الشيء؛ فالحركة تنصح بمقاطعة الشركات الكبرى وبالتركيز على عدد محدد منها حتى لا يتعب ويمل عامة الناس وييأسون من إمكانية الاستمرارية. وهكذا أقاطع أنا الشركات الكبرى لمكدونالدز وستاربكس وبيبسي وكوكاكولا ولوريال وكل الشركات التي أعرف أنها ملك للعملاقة LVHM المالكة لشركات مثل ديور ولويس فويتون وغيرها. أقاطع إلى أقصى حد ممكن، فإذا وصلني علم بجريمة المساندة للصهيونة أقاطع، وإذا وجدت بديلاً، حتى لشركة مشكوك في أمرها، أقاطع، وإذا تبضعت من شركة جديدة أبحث في تاريخها، تاركة استخدام بضائع المقاطعة لأضيق الحدود، حد امتلاكي المسبق لتاريخ 7 أكتوبر 2023 لها، وحد عدم وجود أي بدائل ممكنة تعوضها. ربما أنا أتحنبل وربما أنا أقصّر، في كلتا الحالتين أعرف أن هذا أقصى ما أستطيعه وأبقى أحاول باستمرار، وهو المطلوب من الجميع: فقط الاجتهاد في المقاطعة قدر الممكن والمستطاع.
حين كتب أحدهم يرد أن الفلسطينيين «محتاجون دعائي أكثر من مقاطعتي»، تبدت لي الفكرة واضحة: الفلسطينيون لا يحتاجون شيئاً منا، فهم مقاطعون، وهم مناضلون، ومهم مقاومون، هم في طريقهم للحرية والبقية المطبعة في طريقها للاحتلال والعبودية. أنت تقاطع من أجل نفسك وكرامتك وسلامة جسدك وروحك، أنت تقاطع مقاوَمة لفكرة الاحتلال والقتل الممنهج والإبادة الجمعية، أنت تقاطع لتقول لا لاغتصاب الأرض والعِرض والحق، أنت تقاطع لتتحرر من العبودية الاقتصادية الرأسمالية، أنت تقاطع لأن عندك شرفاً وكرامة وعزة نفس. في الواقع أنا أقول عكس معلقي أعلاه، الفلسطينيون سيستفيدون حصرياً من مقاطعتك، فدعاؤك لن يُستجاب وأنت تدفع للصهاينة ومؤيديهم من حر مالك. قاطع، تحفظ نفسك وجسدك وروحك وكرامتك، لا تقاطع تهين نفسك وتمول حرب الإبادة وتقف سندويشتك وكوب قهوتك بين دعائك وأبواب السماء. ولمن يقول أنت تفرضين رأيك على الناس بكتاباتك أقول، لا يمكن فرض الشعور بعزة النفس وبالكرامة وبالتعاطف الإنساني الغريزي بأي وسيلة، إما أن تملكها أو لا تملكها، أنا أذكرك فقط..