أعلم أن موضوع الكويت-دبي هو موضوع حساس حارق للنفس الكويتية، وبعيد عن كل المزاح والفكاهة، نواجه أنا وغيري من الكويتيين الذين اختبروا نكهة التطور في البلد شعوراً جارفاً بالحياء ورغبة ملحة بالدفاع وتذكراً مضنياً لأيام غدت باهتة بتراكم تراب الزمن عليها، تأتي صورها وتذهب كأنها مسجلة على شريط سينمائي قديم. مجروحون نحن جميعاً في كبريائنا، محرجون لفقداننا لوننا الذهبي ومركزنا المتقدم في الصف. بكل تأكيد نعتز بالتقدم الخليجي ونفرح لجيراننا حين يأخذون خطوة للأمام، ففي النهاية كل خطوة هي انعكاس للمنطقة بأكملها وانعكاس عليها في الوقت ذاته، إلا أننا لم نعد نستطيع إخفاء مشاعر الحرج والحزن، لم نعد نستطيع التوقف عن المقارنة الحارقة، نقولبها في نكت، نتداولها بتعال بقيت آثاره من الأيام البائدة، نسردها دون أن ننسى أن نختمها: لكن تبقى الكويت غير، نهون على أنفسنا بالضحك تارة، وبالتحليلات المتعالية تارة أخرى، ونحن نعلم ما بأنفسنا أكثر من غيرنا.
وليس التراجع المؤلم هو التراجع الاقتصادي أو العمراني، ليست المشكلة الحقيقية في شكل مدينة دبي مقارنة بشكل مدينتنا، وإن كان الشكل أحد أدلة التطور، ولكن التراجع الحقيقي والمشكلة الملحة يتبديان في موقف الدولة من الإنسان، في إهمالها تأهيله، وتجاهلها للمؤهل فيها. الفرق بين الدول المتقدمة والمتراجعة؟ الأولى تلتقط المبدع، تضعه في مصاف العظماء، تتبناه، تستثمر في عقله، والثانية تنحيه لصالح وساطة، تهمله لمصلحة الساسة، تصعب عليه أمور حياته، تغلق عليه منافذ علمه، تدفعه دفعاً، أحياناً على عكس ما تترجى وطنيته، إلى أن يهجرها بحثاً عن مكان آخر يقدره. واضح أين نقع نحن من هذين التصنيفين.
هاجمتني هذه الأفكار وأنا أتابع هذه الأيام شغف الدكتور محمد قاسم، عالمنا الكويتي المبدع الذي أعلنته مجلة Nature Middle East أحد أهم ستة باحثين في الوطن العربي من المؤثرين الناشرين للعلوم وحب المعرفة بين الناس، بالاكتشاف الجديد لموجات الجاذبية، والذي يعدّ، على حسب وصف الدكتور، لربما الاكتشاف الأهم في عصرنا هذا. ينشر د. محمد معلومات علمية مختلفة في مجالات الفيزياء والبيولوجيا وعلم الفضاء وعلم الإنسان، بل علوم الموسيقى من خلال قنواته الخاصة للتواصل الاجتماعي على “تويتر” و”السناب شات” وموقعه الإلكتروني الإنترنتي والأهم بالنسبة إلي من خلال السايوير بودكاست، وهو التطبيق التلفوني الذي يتيح الاستماع لحلقات عجيبة مشوقة غاية في الروعة والعمق والبساطة حول العلوم المهمة المختلفة. لا يكتفي الدكتور بالحديث عن أهم النظريات العلمية، بل يناقش الاكتشافات الحديثة، بعض التطبيقات الاجتماعية للعلوم المختلفة، يذكر تجاربه الشخصية وذكرياته، مما يعطي الحلقات طابعاً إنسانيا مفعما بالمشاعر. كل حلقة من السايوير بودكاست هي قصة مشوقة، يحكي فيها الدكتور حكاية غامضة فيما يبدو سلسلة من القصص السحرية الخلابة التي لا تنتهي والتي لا يتوقف فيها الدكتور عن كلامه المباح.
أروع ما في حلقات الدكتور هو تطعيمها المستمر بذكره للمصادر، الدكتور دقيق جداً في التأكيد على نوعية الأبحاث التي يستخدمها، وفي ذكر عناوين الكتب التي يعتمد في حلقاته بشكل رئيسي عليها. ليس في ذلك إثراء لمعلومات المستمع حول أهم الكتب والأبحاث العلمية المستوجبة قراءتها، والتي أحياناً ما يضع قوائم مكتوبة بها على “تويتر”، فقط، ولكن الأهم من وجهة نظري هو فيما يظهره الدكتور من تأكيد على الرصانة المعرفية والأمانة العلمية، حتى إنه لا يتوانى عن تصحيح المعلومة في حلقة تالية إن تبين له أن مصادر أخرى صححتها، أو التأكيد على مواقع استسقائه للمعلومة في أكثر من حلقة تأكيداً على حقوق الناس الأدبية، وفي ذلك درس أخلاقي ربما نحن بحاجته على القدر ذاته من حاجتنا للدرس العلمي. في حلقته الأخيرة عن موجات الجاذبية، يحكي الدكتور عن بداية التنبؤ بهذا الاكتشاف على يد آينشتاين، ويعدد ورقات آينشتاين العلمية، ومتى قدمها وكيف، ثم يصحح لنا بعض المعلومات عن الورقات وعن مواعيد تقديمها، في دقة مذهلة جديرة بعالم وفي أسلوب قصصي ممتع جدير بأديب كبير.
إلام أصبو من كل ما ذكرت؟ نقطة بسيطة، لو كان الدكتور محمد قاسم “هناك” لا هنا، لأصبح شهرزاداً عظيماً، ولتم تمويله والاهتمام به والدفع بعلومه حتى يصبح كما الصرح الأثير. ليس هنا، فنحن مشغولون بالانتخابات، وبصور هذا المرشح أو ذاك، وبأزمتنا الاقتصادية التي ستؤثر، ليس بعد، على جيب المواطن، وبفصل المدرسين البدون، وبإنشاء مستشفى للكويتيين من جهة، ثم إعطاء بدل إيجار فقط للمعلمات غير الكويتيات من جهة أخرى، وبقضايا ازدراء الأديان والمساس، وبحبس الشباب بسبب ريتويت على “تويتر”. ليس للدولة وقت على ما يبدو لأمثال د. محمد، فالرجل جاد ونحن نحب خفة الدم.