خدعة كبيرة يعيشها معظم رجال شرقنا الأوسط، وكذبة كبيرة تعيش معظم النساء فيها، أن الرجل «الحقيقي» هو ذاك «الحمش» الذي ما إن يدخل البيت حتى يثير فيه الرهبة، هو ذاك الذي يخشاه الجميع وكأنه صورة مصغرة عن الإله في بيته، وهي صورة متوارثة عن الحضارات الإغريقية والرومانية القديمة، حيث الآلهة تحمل صفات ذكورية بحتة، وحيث ذكور العائلة لهم مكانة فعلية مقدسة. يعتقد معظم الرجال في عالمنا الذي لا يزال يحيا في القديم من الزمان، أن الهيبة ذكورية المعنى، وأنها تتأتى بعاملي الخوف والسلطة، أي بالمحافظة على الرهبة في قلوب أفراد العائلة تجاه رئيسها الذكر، وبفرض سلطته عليهم من خلال هذه الرهبة.
هذا الفكر الذكوري امتد منذ قديم الزمن في شرقنا الأوسط العميق تشكيلاً لعاداتنا وتقاليدنا ومفاهيمنا الدينية، فأصبح الرجل المحترم هو ذاك المسيطر على بيته، التقي هو ذاك الذي تخشاه عائلته والمتحكم في سلوكيات كافة أفرادها، هو المسؤول عن أخطاء العائلة، وبالتالي هو المنوط به تنظيم تحركاتها وتوجهات حياتها. وعليه، يؤمن معظم رجال الشرق الأوسط بأن الرجولة تكمن في «ضبط» العائلة وبالأخص إناثها، ليصبح الرجل المهاب بل والجذاب، هو ذاك المتحكم في «محارمه» هو ذاك الذي يغار ويمنع ويغطي ويَأذن ويرفض، حتى إن قوانين العديد من دول الشرق الأوسط تتجاوب ومفهوم الألوهية المصغرة هذا من خلال تخفيف العقوبة عما يعرف زوراً وبهتاناً وانتقاصاً من آدمية المرأة بجرائم الشرف.
حقيقة الأمر أن رجال الشرق الأوسط المؤمنين بألوهية ذكوريتهم يعيشون كذبة كبيرة، كذبة تتندر عليها النساء خلف الأبواب المغلقة. كل أوجه التحكم والضبط والربط، التي لربما تكون جذابة للشابات في بداية أي علاقة من باب خوف الحبيب وغيرته اللذين يبدوان علامة محبة واهتمام، تتحول مع الزمن إلى مادة للاستخفاف بهذا الرجل والنفور منه ودافع للانقلاب عليه. إن السطوة والسيطرة والتخويف وفرض الهيبة كلها مفاهيم في حقيقتها أصبحت مفرغة من المعنى في الزمن الحديث، هذا الزمن الذي اعتمد قيمة الإنسان ومفاهيم الحرية والمساواة مقاييس للحياة البشرية إبانه.
الرجل الصارم المتحكم الآمر الناهي، الذي يعمل «مصمم أزياء» تحكماً في ملبس نسائه «خطابة» تحكماً في زيجاتهم «وزير تربية وتعليم» تحكماً في تخصصاتهن الدراسية «وزيراً للشؤون» تحكماً في توظيفهن، و»أخصائياً اجتماعياً» تحكماً في علاقاتهن الاجتماعية، هو أقل الأشخاص ثقة في نفسه، وبالتالي أقلهم قيمة واستحقاقاً للاحترام في أعين النساء، هو أكثر الأشخاص المستخدَمين كمادة للتندر والفكاهة في مجالسهن، وهو أبعد الأشخاص عن الصدق معه وأكثرهم كذباً عليه.
احتفلت قبل أيام بمرور اثنتين وثلاثين سنة على زواجي، سنوات طويلة بحلوها ومرها وانتصاراتها وإحباطاتها، ولربما أهم ما تعلمته من هذه السنوات هو معنى قيمة الحب الذي يسمح باستمرار العشرة والترافق إلى آخر الحياة. يمتد الحب بالصدق، ينمو بالشعور بالأمان، وتستمر العشرة بالثقة وبالطبيعية، أي أن يكون الشخص حقيقياً وطبيعياً في محيط حياته ومع رفقائه فيها. لا أتذكر يوماً حاجتي للتصنع، ولا حتى مظهرياً، دوماً أنا آمنة في قبول رجلي لحقيقتي المظهرية والنفسية، بشعر منكوش وبيجامة مبقعة ووجه مصفر بالتعب، في لحظات الغضب والحزن واللامنطقية التي كثيراً ما تنتابني. لا أتذكر يوماً حاجتي للكذب، دوماً أنا آمنة في تفهمه ومغفرته حتى مع وقوع أشد أخطائي حدة. لا أتذكر يوماً حاجتي للمداراة، دوماً أنا آمنة في حياة معرضة للشمس والهواء طوال الوقت، لا شيء خفياً فيها طالما اخترناه بإرادتنا وبمحض قناعاتنا. هذا لا يعني أنني لا أخافه، أنا أرتعب فعلياً من نظرة خيبة أمل منه، من ألم قد أصيب به قلبه بلا مقصد، من إحراج قد أتسبب له به في مجتمع لا يرحم تقدمية وإنسانية رجاله كما لا يرحمهما من نسائه، من كلمة قد تطرق مسامعه فتؤذيه بسبب هذه الحياة التي اختارها هو لنا ليسعدنا، ليتركنا نعيش على حقيقتنا، ليسمح لنا أن نحبه طوعاً لا قسراً، حقيقة لا تمثيلاً.
إلا أن هذا الرجل لم يبد لي منزعجاً من كل هذه «التهديدات» في يوم. رائق هو، متصالح مع نفسه، متسامح مع المختلفين معه، هيبته تكمن في هذه الثقة البازغة والراحة الرائجة في جوانب جسده وروحه. لم تبد عليه في يوم الحاجة لمراقبة أو تخويف أو إرهاب أو سيطرة أو تحكم، هو يعلم أن كلمته نافذة من باب المحبة، وأن إرادته مارة من شباك الصدق، وأن مفاهيمه وقيمه ومبادئه مقدرة عند كل فرد من أفراد عائلته من منطلق التفاهم والاقتناع والتراضي، والأهم، من منطلق احترام الاختلاف وتفهم أننا في النهاية بشر مستقلون، كل يتحمل تبعات قراراته، لا حجة ولا قيد لأحد على أحد بحكم جنسه. لم يضع هو في يوم كرامته وسمعته وقيمته قيد تصرفات الآخرين ورهناً على التزامهم بمبادئه، هو من هو، قيمة وهيبة وكرامة، بتشكيل من سلوكياته لا سلوكيات الآخرين.
قيدني هذا الرجل بألف قيد، قيد احترامه لاستقلالي، قيد مراعاته لصدقي، قيد تقبله لاختلافي، قيد نبذه للإجازة المجتمعية والقانونية المفتوحة للسيطرة والقمع «ليقص الحق من نفسه» ويصر على تكوين عائلة حقيقية المشاعر، لا كذب فيها ولا تمثيل. بحكم كل هذا، قيدني هو للأبد.
كل عيد زواج وأنت بخير