أشاهد هذه الأيام، بغصة كبيرة، كوميديا ديف شيبيل، الكوميديان الأمريكي المعروف بإثارته الشديدة للجدل بسبب المواضيع التي يطرحها والألفاظ والتعابير التي ينتقيها لهذه المواضيع. ليس شيبيل هو موضوع المقال، ولكن الموضوع هو هذا السؤال المحير الذي أحوم شخصياً حوله منذ زمن: عند أي نقطة يتحول الحديث من الصراحة إلى الوقاحة التي تستدعي الغضبة والاحتجاج؟ بالتأكيد، لم يخطر ببالي قط أن يشتمل السؤال على استدعاء المنع، فالمنع وتكميم الأفواه لا مكان لهما في المجتمع الديموقراطي الليبرالي المؤمن فعلاً بحرية الرأي والتعبير إلى حدود قصوى لربما لا يردعها سوى حكم محكمة بعيد الرؤية مرتفع السقف جداً. عدا ذلك، لا يمكن للرأي أن يكون له سقف أو حد، ولا يمكن لطريقة التعبير أن تعاني خطاً أحمر أو قيداً خانقاً. لذا، فإن سؤالي هو فعلياً محاكمة لنفسي، لحكمي وتقييمي للموقف لا لحقي في تكميم غيري، أن متى يحق لي أن أغضب وأَصِم المتحدث بالوقاحة والهبوط؟
أنا من جيل تجرحه الكلمات، جيل في معظمه يؤمن أن للحوار أصوله، وللكلمات وزنها، ولأعمار المتخاطبين ثقلها، ولطريقة التعبير أثرها البازغ على الموضوع. ولأن الزمن وتداعياته لا تقف عند أحد، أتت وسائل التواصل الاجتماعي لتحطم كل هذه الموازين والقياسات، ولتغير معايير الحوار وصورة بطله من ذاك المهذب المبدئي عفيف النفس واللسان، إلى ذاك الوقح المتطاول، الذي كلما قسى وأمعن في جر الكلمات المؤلمة الجارحة للعلن، ارتفع مستوى بطولته لترفع جرأته من درجة شهرته وإعجاب الناس به. ولأن قانون الحياة يقول باللهجة الخليجية «إن طاعك الزمن، وإلا طيعه» مما يفرض علينا قبول التغيير والتعامل معه والتأقلم مع تداعياته، ولأن مبادئ الحرية والليبرالية تفرض إزالة كل الخطوط الحمراء وإيساع الصدر لكل الآراء ولكل أساليب التعبير عنها (وإن ليس بالضرورة قبولها أو حتى احترامها)، فعليه، حاولت أن أتفاعل مع المحيط الجديد وأن أتعامل مع معطياته، وإن دوماً ما حاولت تجنب «الأبطال الجدد» الذين طالما كان التعامل معهم عسيراً بالنسبة لي، نظراً لعدم قدرتي على مجاراتهم، والأهم عدم قدرتي فعلياً على احترامهم. لربما جميعنا مررنا بهذه التجربة، صعوبة التعامل والتلطف مع الأشخاص الذين نجد أنفسنا غير قادرين على احترامهم.
الكوميديان شيبيل أثار زوبعة متجددة نظراً لحديثه الصريح والساخر عن اليهود، الذين هم اليوم موضوع لا يُمس في أمريكا. لم يكن كل ما قاله شيبيل مستحقاً تماماً، إلا أنه أتى على ما بدا لي نقداً مستحقاً مجرجراً مني بعض الضحكات. بعدها استمعت لعدة مقاطع أخرى له يتحدث فيها عن التنوع الجندري، عن المرأة وحركة Me Too، عن التحرش الجنسي واتهام الضحية، وغيرها من المواضيع الغاية في الحساسية والتي تناولها هو من زاوية الطرف المضاد، لائماً على المجتمع الأمريكي حساسيته المرتفعة تجاه هذه المواضيع وخلقه لمجتمع إلغائي أو Cancel Culture خطير جداً يمنع نقد خطاب الأقليات أو أصحاب القضايا الحقوقية الرائجة الآن بحجة الصوابية السياسية أو Political Correctness التي أصبحت اليوم مصدراً لتكميم الأفواه عبر التخويف والتهديد والعزل في المجتمع الأمريكي. لم يعد من له موقف من فكرة السامية وأيديولوجيتها قادراً على التعبير عن أقل اعتراض، لم يعد المختلف مع التعددية الجندرية مستريحاً من التصريح بأقل وجه اختلاف، لم يعد غير المتفق مع الحركة النسوية متمكناً من التعبير عن رأيه دون اتهامه بأبشع الصفات ودون أن يخسر، إذا كان مشهوراً أو صاحب منصب، سمعته ولربما مصدر رزقه بسبب إعلانه عن رأيه. لقد تمادى المجتمع الأمريكي تحديداً، يتبعه الغربي عموماً، في حمايتهم المعنوية لحقوق بعض الأقليات، السياسية منها أو العددية أو الأيديولوجية، حتى خلقوا من الطرف الآخر أقلية أيديولوجية مكبوتة ومضطهدة، متعدين على حقها في التعبير، مهددينها نفسياً وأحياناً جسدياً إن هي تجرأت فاختلفت علناً بذهابها برأيها عكس الاتجاه السائد المروج له عبر الإعلام وهوليوود تحديداً.
كل هذا واضح ومقنع، إلا أن تطرف الكوميديان شيبيل في الإفضاء برأيه المضاد للسائد حول اليهود والنساء والمعنفين والمتعددين جندرياً أتى بتعابير مؤلمة، أحياناً مقززة، وضعتني تحديداً في معركة مع النفس، ومع مقدرتي على التعامل والتجاوب مع الرأي وأسلوبه الذين أجد فيهما تحدياً أخلاقياً كبيراً. أعلم أن لشيبيل الحق تماماً في الحديث عما يختار وبالأسلوب الذي يختار، إلا أن سخريته من اغتصاب النساء مثلاً ومن حركة Me Too، تناوله لموضوع إطلاق النار في المدارس على الأطفال وقولبته له في قالب كوميدي، تسخيفه لموضوع التعدد الجندري ولأصحاب فئاته المختلفة، كلها جعلتني رغم إيماني بأهمية حقه في التعبير عن رأيه هذا، أتقزز فعلياً منه وأعجز حقيقة عن الاستماع المصغي إليه.
في الواقع أسائل نفسي كثيراً حول موضوع التوظيف الكوميدي، حيث إنني لست من الأشخاص الذين يجيدون توظيف الكوميديا في المناطق المظلمة، لا أجيد السخرية من الآلام ولا معالجتها عن طريق الضحك عليها. تؤلمني السخرية بعمومها، وتتعبني بعد حين وإن حاولت تحملها ومجاراتها. ساءلت نفسي، هل يحق لي أن أغضب الآن، أن أكون من ضمن الموجة العالمية الناقدة لشيبيل وأسلوبه وتناوله (دون طبعاً التفكير في محاولة إلغاء صوته) أم هل يفترض أن أعاند نفسي وأقسو عليها لتتعامل مع رأيه وأسلوبه كأمرين واقعيين مستحقين؟ هل سأكون من ضمن المجتمع الإلغائي لو عبرت عن مدى كراهيتي لطرح شيبيل ولأساليبه المختارة، وهل سيكون لتعبيري عن رأيي أثر كما لآراء الملايين الآخرين في الإضرار بمصالح شيبيل وفي قسره على السكوت؟ لا أجد شيبيل مضحكاً وهو يرش الملح على الجراج، وهو يضع أصابعه في فتحات الألم الملتهبة، كرهته بكلماته وضحكاته وسخريته وكاريزمته المفتعلة وحركاته التي يتصورها «كول» على المسرح، كرهته إلا أنني ما زلت أخشى أن أكتب تغريدة حول كراهيتي ونفوري واستشكالي الأخلاقي مع ما يقول وكيف يقوله أن تضعني هذه التغريدة ضمن خانة «الصوابيين السياسيين» الذين لا يعجبهم العجب، المتحسسين من كل كلمة حد تحجيم اللغة إلى حدود دنيا. لا أريد أن أكون من هؤلاء، وأريد أن أقول كم أكره شيبيل، فأين وكيف أجد مكاني بين الجميع؟