لا أتصور أن هناك مؤشر أكثر خطورة من هذا ليدلل على عمق معضلتنا الإنسانية في عالمنا العربي. قرأت قبل أيام مقال لأستاذ جامعي في إحدى الدول العربية يصف فيها معاناته مع حالات الغش التي تفشت بجنون منذ بدء الدراسة الإلكترونية ومصاعبها مع حالات “الوجود الشبحي” للطلبة في الفصل الإلكتروني والدلالات المبدئية والأخلاقية لهذه الحالات، معلنا منذ بداية المقال عن كون هذا الفصل الدراسي هو آخر فصل له بعد أن فقد ثقته بالمنظومة وإيمانه بإمكانية تحقيق الهدف، وبعد أن أنهكته التجربة نفسيا إلى آخر حد.
بالطبع ليس هذا مقال متفرد من نوعه، فالأساتذة، ومن كل المستويات التعليمية في معظم الدول العربية، يشتكون من هذا التفشي الفادح للغش و”الشبحية”، أي تسجيل الطالب الدخول للصف الإلكتروني ثم وضع ميكروفونه على الصامت تفاديا لحضور الدرس، حيث تنتشر التغريدات والتعليقات والفيديوهات التي تشير أحيانا بجدية وأحايين بفكاهية لهذا العارض الخطر لأمراضنا المزمنة.
وهي بالفعل معضلة إنسانية، داء أخلاقي، وما يمكن أن يكون كارثة إنسانية على مجموعة بشرية أقوى من ضربة صميمية على الأخلاق والضمائر لتظهر نتائجها، أول ما تظهر، في المحيط التعليمي وعلى مخرجاته؟ بالتأكيد أنا لا أدعي هنا أن هذه المشكلة هي حكر على الدول العربية، لكنني أقول وبإصرار أنها ظاهرة فيها، أنها نمط حل للعقبات والصعوبات التي تواجه الناس عموما في حيواتها اليومية والطلبة خصوصا في حيواتهم التعليمية.
التحايل لتفادي خدمة حقوقية (التعليم) والإلتواء على الدور المستوجب لتلقي هذه الخدمة التي هي القاعدة الأساسية لبناء أي مجتمع، وكأن هناك كفر تام بالتعليم وأهميته، هي ظاهرة خطرة عميقة الجذور. هذه الحالة الذهنية لم تظهر فجأة وهي ليست حكرا على الطلبة ولا هي ذنبهم بالتأكيد، هي مرض اجتماعي عميق الجذور خطير الدلالات كارثي التداعيات، هي المؤشر الأوضح على أسباب الكثير من مشاكلنا المزمنة وهي العراف المرعب القادر على التنبؤ بمصيرنا القادم.
منذ سنوات بدأت ظاهرة الغش تظهر بشكل استفشائي ووقح على الساحة التعليمية الكويتية تماما كما على الساحات التعليمية العربية الأخرى. أتذكر تحديدا حين تم الإمساك بمجموعة طلبة وهم يغشون في امتحانات الثانوية النهائية ليتم فصلهم من مدارسهم، كيف أن الأهالي خرجوا في اعتصام يطالبون فيه “بمسامحة عيالنا، هم عيال الديرة على كل حال”، حتى أن أحد أولياء الأمور صرح بصوته الجهوري بما معناه أن لا بد أن كل من وصلوا لدرجة تعليمية مرتفعة أن مارسوا الغش مرة أو أكثر في حياتهم، فلماذا كل هذا التشنج “ضد عيالنا؟”
كان الحوار الدائر فوق مستوى المنطق، كلام لا يصدق، فاصل فكاهي في حياتنا الغريبة، إلا أنه اتضح أن الفاصل ليس فاصل أصلا، هو الحالة السائدة المتسيدة، هو الوضع الطبيعي، الأمانة والالتزام وبذل الجهد، تلك هي الفواصل “النافرة” في حيواتنا، فواصل مضحكة مستغربة بل ومستهجنة كذلك، “مبالغات لا داع لها، تدقيق مبالغ به، شوية عيال وغلطوا، ما في داع للتهويل”.
هناك فقدان ثقة في عالمنا العربي بمؤسسات دولنا، هذا يدفعنا دوما للتمسك بتقسيمات فئوية لا علاقة لها بمدنية حياتنا الحديثة مثل التقسيمات القبلية، الأسرية، والطائفية والتي نؤمن كلنا أنها أقوى من مؤسسات الدولة برمتها. إلا أن فقدان الثقة هذا له منحى أخطر حتى من هذه التقسيمات الفئوية ألا وهو الاعتماد على التحايل لتحقيق أي إنجاز. بما أن المؤسسات غير عادلة وأصلا قائمة على الفئوية والطبقية وعلاقات الدم القديمة التي لا تزال تحكم معظم أمور حياتنا في عالمنا العربي، إذن فإن تحقيق أي انجاز من خلالها لا يستدعي بذل الجهد والإخلاص في العمل وغيره من الشعارات الطنانة، العلاقات “الصح” وقوة اسم العائلة ومعرفة أسماء “واصلة” ستعبد الطريق.
هذا التوجه ينعكس على كل مناحي الحياة بالطبع، لماذا أبذل جهدا في الدرس إذا ما كنت أستطيع التحصل على ذات النتيجة بمجهود أقل؟ وماذا أنا فاعل بشهادة لن تنصفني وقت استحقاق العمل أمام آخر ذي اسم كبير وعلاقات نافذة؟ ولم أسع لشهادة حقيقية وأنا أعرف أنني سأتساوى بصاحب الشهادة المزورة؟
موضوع التعليم عن بعد لا ينطوي على صعوبة تقنية بل هو فضح معضلات أخلاقية أبناؤنا وبناتنا الطلبة هم أول وأخطر ضحاياها. التجربة مريرة، فارتفاع نسبة الغش والنقل من المواقع الإنترنتية بل والاعتماد المتزايد على المواقع الخدماتية لعمل البحوث والواجبات المدرسية هي ظواهر مفزعة فعليا خصوصا في نسبة ارتفاعها المفاجئة الكارثية. ليس أنها جديدة، فهي ليست كذلك، ولا هي خاصة بمرحلة معينة، فالطلبة أنفسهم دوما ما يصرحون أن الغش بصورة المختلفة هو منهجية تبدأ من المرحلة الابتدائية، تعززها ثقافة التكرار المفرغة من التفكير النقدي وعملية تسهيل بل وتشجيع النقل وإهمال الحقوق الأدبية وعدم فهم أن هذه الممارسة هي في الواقع سرقة بكل المقاييس.
الظاهرة ليست جديدة إلا أنها لمعت وتجلت في أقبح صورها مع تجربة التعليم الإلكتروني. حتى هذه الشبحية الإلكترونية تسجيلا للدخول ثم عدم حضور الدرس لها دلالات خطيرة، فالطلبة لا يفهمون أن هذه خدمة مدنية لهم، حق من حقوقهم الإنسانية المستوجبة، وكذلك ميزة من مميزات العيش في دولة قادرة على تقديم هذا الحق. يتهرب الطلبة مما يستحقون، مما يفترض أن يشتكون غيابه، فأي معنى لهذا الوضع الغريب المعكوس؟ كيف أوصلنا الصغار لهذه الممارسة الخطرة المتفشية بوحشية مرعبة؟
مفزعة الفوضى في الصف الدراسي الإلكتروني، فغياب منظومة مبدئية أخلاقية يفترض أنها مغروسة مع الإنسان منذ بداية وعيه على الحياة، تزامنا مع تعلمه الكلام والتعامل مع الناس، هو غياب مفزع فعليا وعلى كل المستويات.
غياب الحدود الأخلاقية هو غياب للقيم المبدئية التنظيمية وإعطاء العشوائية والفوضى فرصة الاستبداد التام بحياتنا. هذا وأصبح الوقت والجهد ضحايا للمحاولات المستمرة لضبط عملية الغش وللتأكد من حضور الطلبة الصفوف الإلكترونية، كل ذلك على حساب جودة التعليم وقيمة وكمية المادة المقدمة للطلبة. حقيقة وليس مجازا ولا مبالغة، أصبح القلق عنوانا للتعامل الإلكتروني التعليمي، غاب الشعور بالأمان أكثر ما كان غائبا واستبد شعور بتمكن الفوضى وغياب العدالة، وهذه كلها قيم لا يمكن أن تحكمها قوانين وحدود ومراقبات ولا حتى تخويف أو ترهيب، هي قيم تغرس في الصغر لتصبح كما النقش على الحجر. إذا فاتت فرصة غرسها منذ البداية، وإذا ما شهد الصغار تخلي الكبار عنها أصلا، فلا مجال لإنقاذها، ولنصلي على القيم صلاة الميت.