في الوقت ذاته الذي تتحاور فيه تونس حول استكمال الحقوق الإنسانية لكل مواطنيها ومقيميها، كنت أنا أتعارك حواراً مع بعض الصديقات حول موضوع ملك اليمين في الشريعة الإسلامية، وماذا كان موضوع المعركة تحديداً؟ عورة الأَمَة، هل هي كعورة الحرة شرعاً؟ تحولت المعركة بعدها إلى معركة طائفية نوعاً ما حين أشارت إحدى الصديقات إلى أن عورة الأمة عند السنّة قد تكون مثل عورة الرجل، في حين أن عورة الأمَة عند الشيعة هي تماماً كعورة الحرة. قلت: لا، هي ذاتها عند الطرفين، وقالت: كلا، هناك اختلاف. وكانت الحقيقة، على ما يبدو، بيننا في مكان ما، حيث تبين أن هناك اختلافات فقهية كثيرة أغلب السنيّ منها يقول إن عورة الأمة كما عورة الرجل بين السرة والركبتين، وأغلب الشيعي منها يقول إن عورة الأمة جسدها، أما رأسها وشعرها ورقبتها ليست بعورة، وكما أن هناك اختلافات في الرأي فهناك آراء فقهية لشيوخ من المذهبين تتفق في الموضوع.
هل من فائدة من هذا الحوار؟ فعلياً لا توجد، لكن الحوار كان جاذباً بسبب غرابته، وكان مستمراً بسبب عنادنا كأطراف له، فحين انتهيت للوصول إلى فتوى شيعية من مقلد مهم بأن عورة الأمة ليست كعورة الحرة، ثم أرسلتها للصديقات لإثبات معلومتي التي اعتقدت بها أنني كسبت الجولة، ردت إحداهن أن الحمد لله على نعمة الإسلام الذي أنهى العبودية. توقفت هنا للحظة واستشففت سخف الحوار بأكمله، فقد كان على وشك أن يقودنا إلى حوار آخر أعرف مراحله، سأقول أنا إن الإسلام- كما بقية الأديان- لم ينه العبودية وإن كان سعى لتحسين وضع الواقعين تحت نيرها، وستقول هي بل إن الإسلام أمر بعتق الرقبة في معظم المعاصي، وسأقول أنا إن التشريع التفصيلي للعبودية لا يزال موجوداً، إذ إن العبودية لحد اليوم ليست محرمة، كما أنه وبالرغم من أن ممارسة عتق الرقبة قللت عدد العبيد بدرجة بسيطة إلا أن الغزوات والسبي والغنائم كانت من الجهة الأخرى تفتح الباب على مصراعيه مُدخلة أعداداً ضخمة من العبيد على المسلمين من جديد، وستقول هي إن هذا زمن غير الزمن، وسأقول أنا بالضبط: وعليه نحتاج إلى تشريع غير التشريع وتفسير غير التفسير، وستقول: ولكن ليس في كل شيء، وسأسأل: ومن يختار الأمور المستحقة للإصلاح؟ سترد: هذا شأن المختصين، حينئذ ستحمر أرنبة أنفي وأنا أضغط غيظي وضحكتي في الوقت ذاته على هذه الجملة القمعية التي يرددها الناس بلا تدقيق وتمحيص، وسأقول لها: أعتبر نفسي مختصاً، وستقول: أنت أبعد ما تكونين عن الاختصاص. وكلمة مني على كلمتين منها ستنجرح مشاعرها كما تنجرح مشاعر أغلب البشر حين تسائل أفكارهم المتوارثة، وستنجرح مشاعري كما تنجرح مشاعر أغلب البشر حين تشك في قدرتهم على الفهم ومنطقة الأمور.
قد لا أجد الفرصة لأقول لها إن الإصلاح يبدأ بالاعتراف بالمعضلة الفكرية لا بالهروب منها والدفاع المستميت عن أسباب وجودها. العبودية ووضع المرأة هما، على سبيل المثال، موضوعان شائكا الفحوى في الشريعة الإسلامية، كثيراً ما يتسببان في توجيه النقد القاسي للآراء الفقهية. ولا يكمن الحل، في رأيي، بالاستمرار في الإصرار على صحة العبودية أو صحة التشريعات الحالية الخاصة بالمرأة، فالحل يكمن في إعادة القراءة والتفسير والتحليل واستغلال طواعية النص الديني وليونته وقابليته للتفسيرات والـتأويلات المختلفة لصنع رأي فقهي جديد، ومن ثم وضع إنساني متطور وحالة اجتماعية أكثر تحضراً ولياقة بالدين وبمعاني النصوص المقدسة. بغير هذه الخطوة المتعبة والخطرة لن يتعدل لنا حال، ولن نتواصل وزماننا الذي نحياه. هذا، وستبقى تلك الخطوة خطوة مزمنة تلازم أصحاب الأديان في كل العصور والأزمنة والأمكنة، ولن نصل أبداً في يوم إلى مرحلة كمال لا نحتاج عندها إلى الإصلاح وإعمال النقد وتفعيل إعادة القراءة والتفسير، وستبقى هذه حاجة ملازمة للإنسان وأفــــكاره ومعتقداته، فبدونها ستضعف الفكرة وسيتراجع الإنسان عن ركب البشرية الحضاري.
كان الوضع كوميدياً؛ ففي مشهدي لحوار تونس وحواري أنا والصديقات بدت المسافات بعيدة والأهداف مختلفة تماماً، التوانسة يرومون إصلاحاً حقيقياً وتفعيلاً للحقوق الإنسانية، وأنا والصديقات «ما عندنا سالفة»، كما نقول باللهجة الكويتية، ولم تنتصر أي واحدة منا، ولم يحقق النقاش أي تغيير إيجابي. وقد كانت حسنة النقاش الوحيدة هي ما توفر لنا من ضحكات حول غرابة الحوار وانعدام أهميته، وكان الأجدر لو أنني بدأت بالنقطة التي ما وجدت لاحقاً فرصة للتعبير عنها، والتي تدور حول ضرورة مواجهة الحقائق ومحاولة التعامل مع تاريخيتها وصلاحيتها للوقت الحالي. وإني لو فعلت، ربما كنت والصديقات التقينا بشكل أفضل لننكأ منطقة العبودية الحساسة ما بدا مفيداً لأي منا، وأوصلنا إلى نقطة الاتفاق التي كان يجب أن نصل إليها. ولهذا السبب، ولأنني لم أكن رحيمة وحكيمة بالشكل الكافي في هذا الحوار، أقول علناً.. أنا آسفة.