لماذا تثور ثائرة المسلمين حين يتم تناول التاريخ الإسلامي بسرديات مختلفة عن أو متباينة مع الشائع المتعارف عليه؟ حضرني هذا السؤال وأنا أتخيل رد فعل الشارع المسلم بكل أطرافه حين يتم عرض الفيلم الجديد المعنون (سيدة الجنة – The Lady of Heaven) والذي سيحكي قصة السيدة فاطمة ابنة الرسول، من خلال ربطها بسردية معاصرة لطفل يعاني من أحداث عنف في عراق اليوم. القصة مكتوبة على يد الكاتب الشيعي المتشدد ياسر الحبيب، الذي يعيش في بريطانيا الآن بعد أن تسببت آراؤه المتطرفة الجارحة في إثارة الكثير من الزوابع، انتهت بخروجه النهائي من الكويت. يبدو الفيلم متقن الصنع من دعايته المنتشرة، كما أنه يبدو مائلاً للسردية الشيعية (لا أدري إن كانت سردية الفيلم متطرفة أم لا، فالدعاية لا تظهر هذا الجانب) والتي لن تمر مرور الكرام في العالم الإسلامي بكل مدارسه، حيث تتناقل الأوساط الشيعية بحد ذاتها اليوم رسالة تحث على مقاطعة هذا الفيلم لربما بسبب أحداثه التي قد يراها البعض مغالية، أو بسبب من شخص كاتبه الذي يراه المجتمع الشيعي الخليجي، والكويتي تحديداً، مسيئاً لهم وموتراً للعلاقات الإسلامية بينهم وبين أصحاب المذهب السني. يبدو أن هذا الفيلم لن يلقى قبولاً عند كل الشارع الإسلامي، مما يستحث السؤال العام، تجاه هذا الفيلم وغيره من الأعمال البحثية والفنية والتاريخية، أن لماذا الغضب والتخوف من أي قراءة تاريخية مختلفة؟
أتفهم بالتأكيد الغضب تجاه إهانة الرموز الدينية، بل أتفهم الأسى الذي يستشعره المسلمون تجاه مجرد نقد هذه الرموز، فالعقلية الإسلامية «تعصم» رموزها رغم نفي العصمة عنهم من الرسول بحد ذاته، وهي تصبغ هؤلاء الرموز بصبغة أسطورية يصعب مع ثباتها الزمني الطويل التراجع عنها أو حتى مجرد محاججتها أو تحديها. تبدو ظاهرة إرساء العصمة والأسطورية واضحة عند الجانب الشيعي في الواقع أكثر منها عند الجانب السني، إلا أنها موجودة بالعموم في كل المدارس الإسلامية، وهي إحدى أسباب تصعيب مهمة النظر بمنظور تاريخي أو علمي أو نقدي للسردية الإسلامية ورموزها. ولكن ورغم التفهم التام لمصدر ونوعية الحساسية الإسلامية تجاه النقد والتشكيك، فإن حقيقة القراءات المختلفة والتفسيرات المتباينة من شأنها أن تبقي التاريخ المعني حياً ينبض، تبقيه حكاية مشوقة يتداولها أصحابها، تجعله مادة معاصرة حية، يُفهم منها الماضي وتُستفاد منها العبر، فلماذا نريد سد الباب التجديدي الخلاب هذا؟
من هذا السؤال يتجلى سؤال أخطر وأهم، أن هل من المعقول أن كل الغاضبين الثائرين تجاه كل رأي يحاجج أو يتحدى السردية التاريخية السائدة مقتنعون تماماً بحقيقية الرواية التي يمتلكون؟ أما زلنا في القرن الحادي والعشرين نؤمن بالقصة التاريخية الكاملة وبالسردية الدينية الصادقة في كل تفاصيلها؟ مع انتصاف الألفية الثانية التالية لحياة النبي محمد، هل يعقل أن كل هذا الزمن، الألف وخمسمئة سنة الماضية، لم يغير شيئاً في الحكاية؟ لم يتسبب في لخبطة تواريخ أو لعثمة أقوال؟ هل يمكن أن تكون السردية المثالية الكاملة بتفاصيلها المنمنة كلها حقيقية؟ وهل مما يعيب الدين أو رمزه العظيم المتمثل بالنبي أن يُساءَل هذا التاريخ أو تُراجَع حقائقه أو يُتشكك في تفاصيله؟ هل سيتغير الإيمان بالنبوة لو أن السردية مختلفة؟ هل سيترك المسلمون دينهم لو اكتشفوا اختلافات تاريخية حتى لو كانت جسيمة بين ما يؤمنون به وما يمكن إثباته؟ أشك جداً في ذلك. فصاحب الاعتقاد، ولو أعطوه الدليل حياً ينبض ضد اعتقاده، لما تركه في الأغلب الأعم، فكيف الحال مع سرديات تحتمل الكثير من التفسيرات المختلفة، وتخص أشخاصاً، رغم مكاناتهم العظيمة وكراماتهم المروية، إلا أنهم يبقون بشراً قابلين للخطأ والحياد عن طريق الصواب؟ ستترك بشرية هؤلاء الرموز مخرجاً للسرديات المختلفة، مساحة لتبرير أخطائهم، إن وقعت، وإمكانية لتفهم الأبعاد والأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الأخطاء التي حكمها زمانها وظرفها.
لو أن العالم الإسلامي كان أهدأ، لاستطعنا أن نناقش الكثير، ولتمكنا من أن نعدل الكثير من السرديات التاريخية غير المتوائمة سواء في المدرسة الشيعية أو المدرسة السنية أو غيرهما من المدارس الإسلامية المختلفة. ليت كان هناك تقديس للبحث العلمي بقدر التقديس المفروض للمنظور الأسطوري، لاستطعنا عندها أن نكشف جوانب تاريخية مهمة، ونتعلم الكثير، ولربما استطعنا فك ألغاز العديد من الأحداث والتأريخات غير المتوائمة، والروايات غير الممكنة منطقياً أو تاريخياً. لن يعيب ذلك الدين أو أصحابه أو رموزه في شيء، هو فقط سيغير بعض المفاهيم التاريخية وسيساعد هذه الأمة على فهم الكيفية التي وصلت بها إلى هنا، إلى هذه الحالة الاستاتيكية الجامدة. لن يكفر أحد إذا تغير تاريخ أو تبدل مكان منطقة على الخريطة أو تبين خطأ رمز يراه أصحابه معصوماً. كل ما في الأمر أن التفسير والتأويل سيصاحبان المعلومة الجديدة وسيصوغانها لخدمة السردية الدينية التي لن تخرج عن قداستها، فلم هذا الخوف المريع؟ ولم هذا العنف البشع الذي يتبع هذا الخوف المريع؟ الأهم من كل ذلك، أن طرح قراءة دينية أو تاريخية مختلفة هو طرح غير ملزم، يمكن النظر له على أنه اجتهاد، رأي آخر، مدرسة جديدة «مجنونة» لو أحب المتلقي. في النهاية الطرح هو ذاك، مجرد طرح، مجرد كلمات لك أن تتفحصها، تتأملها، تتبنى البعض منها، ترفضها تماماً، تثور عليها وتدحضها بحجتك، الشيء الوحيد غير المسموح به هو إسكاتها وإنكار حقها في الظهور، عدا ذلك، فكل ردود الأفعال تجاهها يفترض أن تكون مقبولة مكفولة.
أتحمس لمشاهدة الفيلم الجديد، وكنت لأتحمس أكثر لسماع وجهات النظر التاريخية والرؤى الفلسفية حول الأحداث وتفسيراتها الواردة في العمل الدرامي، ولكن يا ترى، هل سيعطي العالم الإسلامي نفسه هذه الفرصة أم سيبدأون بالتكفير وينتهون بالتهديد بالتقتيل لنعود لنقطة الصفر؟ أتمنى أن أستمع لمناظرة تاريخية حقيقية علنية، تكون كل أطرافها آمنة على نفسها، صريحة تماماً في قولها وعروضها الروائية والتاريخية، حاضرة لتستمع للرأي الآخر بقدر حضورها لتعرض رأيها، هل يمكن أن يتحقق هذا الحلم ذات يوم؟