في تحييد دار عبادة، التي بدأت ككنيسة وتحولت بعدها إلى مسجد لتستقر إلى متحف، رسالة مهمة.. وهي أن الأرض التي بنيت عليها هذه الدار أصبحت تتسع لأطياف مختلفة، إنها تحتوي الجميع وتشهد على تاريخ الجميع وترمي إلى السلام مع الجميع. إن صفحة الحرب الدينية القديمة قد أغلقت، وصفحة المدنية الجديدة بحيادها تجاه كل الأديان واحترامها لوجودها وحمايتها لأصحابها قد فتحت. هكذا كان يفترض قراءة رسالة تحويل آيا صوفيا من هويتها الإسلامية التي تشكلت في 1453، والتي بنيت على هويتها المسيحية الأولى التي تشكلت في 532، إلى هويتها المدنية المحايدة الما قبل الأخيرة كمتحف في 1934. يجدر القول هنا أن كل خطوة تغييرية عنيفة لهوية هذه الكنيسة، هي خطوة تضاف إلى تاريخنا البشري العنصري الذي لا يبدو أنه يريد أن يهدأ أو يحيد عن طريق صراعاته البدائية.
ورغم اعتقادي بحكمة تحويل أيقونة دينية مثل آيا صوفيا إلى صرح محايد، إلا أنني لا أعتقد أن التغيير الأتاتوركي لتركيا الإسلامية يمثل ثورة تغييرية حقيقية في اتجاه المدنية مثل الثورات الأوروبية، فمثل هذه الثورات تحتاج إلى تغيير الأفكار لا الأشخاص، تتحقق أهدافها بغرز مفاهيم فلسفية اجتماعية وسياسية حقيقية عميقاً في تربة المجتمع، لا بزراعة أفكار غريبة مفاجئة عنوة وبسطحية على وجه تربته التي تلفظها. هذا التغيير الأتاتوركي العنيف لم يختلف في فكرته كثيراً عن فتح محمد الفاتح الدموي للقسطنطينية الذي سبقه، ولا عن تحويل أوردوغان الصادم (لكن الأقل عنفاً بالتأكيد) لأسطنبول الذي تبعه. هذا العنف، الفكري أو المادي، في التعامل مع هذه البقعة من الأرض وأهلها، تركها في حالة شبه معلقة وشبه متجمدة بين هويات مختلفة لم يعد الشعب قادراً على تبني أحدها بشكل واضح وهادئ ومستقر.
وفي حين بقي الشعب الإسباني الحديث وجهاته الحكومية، في منطقة الأندلس للجنوب الإسباني، يناضل من أجل المحافظة على الهوية الإسلامية لمسجد قرطبة، التي حاولت الكنيسة الكاثوليكية طمسها بمحاولة ادعاء مسيحية المبنى الخالصة، حيث «أكد تقرير إسباني أعده خبراء ومؤرخون أن مبنى جامع قرطبة لم يكن يوماً ملكاً للكنيسة الكاثوليكية» مشككاً في مزاعمها حول ملكيتها للمبنى الذي يعتبر من «أهم معالم الفترة الإسلامية في الأندلس» كما قال موقع الخليج أونلاين في 2018 والذي أضاف أن «جاء ذلك في تقرير صادر عن لجنة تابعة لبلدية مدينة قرطبة الإسبانية، حول ملكية مبنى مسجد قرطبة الكبير الذي يستخدم اليوم ككاتدرائية تابعة للكنيسة». وحيث تم تشكيل عرائض عدة من مواطنين وأكاديميين اعتراضاً على أي محاولة لطمس هوية المسجد، فإن للحكومة التركية موقفاً مختلفاً ومؤسفاً من آيا صوفيا، موقفاً لا يرمي إلى طمس التاريخ فقط، بل للعبث بالتوازن الحالي، وجر البلد بل والمنطقة كلها إلى صراع ديني يفترض أن طواه الزمن.
أي خديعة تلك التي يتبناها الساسة لتحقيق مآربهم بلجوئهم الدائم للتحريك الكاذب لآمالنا المؤلمة وأحلامنا المؤجلة بتحرير القدس؟ تذكرني جملة أوردوغان «إحياء آيا صوفيا من جديد هي بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى» بكلمة صدام حسين إبان احتلاله الغاشم لدولة الكويت.. بأن هذا الاحتلال هو طريقه لتحرير القدس، فأي كذبة مهينة تلك التي يتبناها الساسة يدغدغون بها مشاعرنا لتمرير مشاريعهم السياسية؟ ليس هناك إهانة أكبر لحلمنا المؤجل بتحرير القدس ولكرامتنا المنتهكة أصلاً بتأخير عودة الحق لأصحابه من تلك التي يوجهها لنا ساسة «لهم مآرب أخرى» يسعون لتحقيقها من خلال محاولة دغدغة مشاعر جريحة لشعوب ساذجة يائسة. القدس ستتحرر عندما يتحد العالم كله في موقف إنساني حقوقي واضح لإنهاء هذا الاحتلال العسكري وما يصاحبه من جرائم حرب وإبادة، القدس ستتحرر حين تتعدى الشعوب العربية وحكوماتها مرحلة الشجب والاستنكار التي بحد ذاتها خفتت هذه الأيام، إلى مرحلة الفعل الحقيقي والضغط العالمي لاستعادة الحق المسلوب. مئة سنة والقدس ترزخ تحت الاحتلال ليأتي ديكتاتور مجنون ذات سنة، مؤملاً الفلسطينيين بعودتها باحتلاله لدولة جارة حرة ما انفكت تقدم المساعدات له، ثم ليأتي رئيس آخر مصاب بداء العظمة ملوحاً بالآمال العزيزة ذاتها ليمرر مشروع استيلائه على مبنى وقف محايد بين المسلمين والمسيحيين في هدنة تستهدف استتباب المدنية والعلمانية في تركيا المتقلبة، ليعود بالدولة التركية وشعبها عن حياد غير مستقر أصلاً دفعت فيه الدولة وشعبها الكثير من الأرواح الثمينة، وليحول مسار علمانيتها إلى طريق وعر خطر.
وكما تتعلق تركيا بين قارتين، هي تتعلق بين هويتين دينيتين، لا يبدو أنها قادرة على الوقوف فعلياً حياداً بينهما، لربما لأنها لم تخير في الموضوع، لأن تبني هذ الدين أو ذاك أو حتى الحياد بينهما، كلها خيارات جاءت دوماً بحد السيف. وها هي الهوية التائهة لآيا صوفيا تقدم المثال الأفضل للمصير الأسوأ، مصير يقلبها بين الأديان عوضاً عن أن يفتح بوابتها لها كلها، عوضاً عن أن يستقر بها كما كانت لفترة وجيزة، متحفاً يشهد لكل الأديان بوجودها، يدلل عليها تاريخياً، ويقف احتراماً لعقائدها الراسخة في قلوب أفراد الشعب التركي. لكنه الغرور السياسي الذي دوماً ما يسعى للاصطياد في المياه الدينية. هي أشياء لا تتغير..