تستمر بنا الحياة على كل الأحوال، غزة تقصف كما لم يسبق للقصف أن كان، تختلط الدماء بالعظام، يتطاير النواح كما لو كان صوت ريح لا تتوقف، ثكلى ويتامى ومنكوبون، أحجار تحتها أعمار، البحر من أمامكم وإسرائيل من ورائكم، الكل يتراكض في غزة، كل الكبار يركضون محملين بأكوام لحم الصغار، هل سأل أحد منا صغيره من قبل: كيف تود أن تغادر يا صغيري؟ غرقاً أم حرقاً؟
أعتذر، أدري أن الكلام موجع، “يعني هذا مناسب ليكتب في جريدة؟ يعني ما تعرفين تختارين كلمات أقل شناعة؟” لا، لا أعرف، فالكلام على قدر العمل، ونحن لا عمل لنا ولا أمل، لذا، لا تنفع الكلمات، ربما السكاكين، ربما لو صنعنا كلماتنا من سكاكين، ربما نصحو.
أنام بعين مغمضة وأخرى مفتوحة، لا أريد أن أرى الحلم كاملاً، لا أريد أن أرى هذا الصغير تحت الأنقاض، ربما لو أبقيت عيني الأخرى مغمضة، ربما ما رأيت الطفل، ربما ما احترق القلب، فهذا خير ما نفعل في أوسط الشرق المنكوب، نغمض عينا ونفتح أخرى، نرى الصورة نصف كاملة، نكملها على مزاجنا، ونرتاح.
بالله عليكم لا تستغربوا، معظمنا ينام كما أنام أنا، حتى نستطيع أن نستمر في حياتنا، حتى نأكل ونشرب ونضحك ونتسوق ونضع صورا على إنستغرام ونرسل نكاتاً عبر الواتس آب، بل إن هناك من ينام بعينين “مفنجلتين”، لا يرى حلماً ولا يستشعر ألماً، فتجده “يخترع” القصة، فعوضاً عن أن يكون موضوعها طفلاً تشظت في جسده قنبله، يتحور الموضوع إلى “حماس” و”إخونجيتها”، يصبح النقاش عن فلسطينيين باعوا أرضهم، يصبح الحوار عن دولة تحمي حدودها من “الإخوان” لا دولة تغلق معابرها في وجه الأطفال. لا أدري، لربما هي قلة النوم، هؤلاء الذين ينامون بعينين “مفنجلتين”، لربما فتك السهد بشبكية أعينهم فما عادوا قادرين على مشاهدة المنظر، ينظرون مباشرة، وكل ما يرون، ليس طفلا ذهبت عنه الحياة، بل مخلوقا سنيا أو شيعيا، مصنفا على أنه “إخونجي” “حماسي” أو “فتحاوي”، إنها قلة النوم التي جعلت إسرائيل اليوم في كفة الأصدقاء، في صف الطيبين، وأطفال غزة، في صف حماس، في صف الإخوان الأشرار، ومصر، حكومة مصر، في صف من؟ نعم، لربما هي قلة النوم، لا يمكن أن يكون غير ذلك.
ومع ذلك، تستمر بنا الحياة حتى حين يستوجب عليها أن تتوقف، تستمر وتستمر كأنها مرض نفسي عضال، ولكن في غزة لا شيء يستمر، هم في قمقم أغلقت “فتحاته”، أشاح عنهم الجار بوجهه للجهة الأخرى، هو والزمن والصهيوني المستعمر، كلهم أشاحوا بوجوههم، لا يريدون أن يسمعوا صراخ الصغار، ولا لوم عليهم، فمن ذاك الذي يرغب في أن يسمع أنّات طفل يستغيث؟.
لا يريدون أن يشاهدوا الحرق والدمار، الأمهات الثكلى والرجال المكسورين، المساجد المهدمة والكنائس المنكوبة، الموت مصلوباً فوق رأس الجميع، ولا تثريب عليهم، فمن ذاك الذي يرغب في أن يشاهد الموت والدمار والثكل والانكسار والحسرة التي تأخذ الروح؟ معهم حق، إذا أشحت بعينيك وأغلقت أذنيك، ولم تر أو تسمع، انتهت المشكلة، وكأن كل ذلك لم يكن. مثل ذلك مثل الفكرة الفلسفية القديمة: لو أن شجرة سقطت في وسط غابة غير مستكشفة، ولم يعلم إنسان بهذه الغابة ولا بسقوط الشجرة، فهل سقطت هذه الشجرة حقاً؟
ذات المنطق البسيط، لو أننا أشحنا بوجوهنا جميعاً، تسقط شجرة غزة، ولا أحد منا يراها، فكأنها ما سقطت وكفى الله الشرف والضمير شر “الصحيان”، يجب علينا ألا نغمض أعيننا، إن أغمضناها فلربما رأينا الحقيقة، وساعتها سيدوي سقوط الأشجار ولن نستطيع الفرار.