في مقابلة له، تحدث المخرج المصري خالد يوسف، وهو خريج مدرسة يوسف شاهين ولربما يكون أحد أهم مخرجي العالم العربي حالياً، عن ما يعتقده من أهمية عصر جمال عبد الناصر، ومن ثم رفضه لإخراج أي عمل سينمائي قد ينتقد هذا العصر أو يُظهر عيوبه. كان رد يوسف حين سؤاله إن كان يمكن أن يقوم بإخراج فيلم يدين عصر جمال عبد الناصر أن «دونها الموت، لا يمكن أن أعمل فيلم يدين عبد الناصر»، مبرراً أن السبب هو أن هذه «هي التجربة الوطنية الكبرى في تاريخنا»، فعبد الناصر «غير البنية الاجتماعية، غير وجه الحياة» في مصر، على حد قول يوسف. تأملت كثيراً في هذا التصريح الخطر الذي يقول إننا كشرق أوسطيين، مهما تثقفنا، وإن خطونا حثيثاً في القرن الحادي والعشرين، تبقى تركيبتنا السياسية النفسية قابعة في القرن الثالث عشر، نُبقي على ولاء عشائري لقادة أو أشخاص بارزين، نحولهم لرموز، ثم نقولبهم أبطالاً، ثم نؤطرهم أساطير غير قابلة للمراجعة أو النقد.
ولأنني من «مريدي» جمال عبد الناصر، من المؤمنين بالمبادئ التي عمل عليها ومن خلالها، ولأنني شرقية في عمقي، فأنا كذلك أعاني من المتلازمة ذاتها، متلازمة صنع الأساطير ثم عبادتها ثم الموت دون مراجعتها، إلا أنني لا أعدم المحاولة في مقاومة هذه المتلازمة الشرقية. ومن ضمن محاولاتي هي كتابة مقال مثل هذا. نعم، غير جمال عبد الناصر التركيبة الاجتماعية في مصر. ونعم، شكّل وجه حياة جديداً لها، لكن هذه التغييرات لم تأت بلا ثمن باهظ، ثمن كانت أهم مدفوعاته، الديكتاتورية المريعة التي قاد بها عبد الناصر البلد، ليحولها إلى بلد «بوليس سري» ومعتقلات سياسية، وليقلب المعادلة الاجتماعية الاقتصادية فيصبح الجزار أهم من الدكتور، وليخسر كفاءات مصرية مهمة خرجت من البلد في حقبته بعد أن سلبها كل ما تملك لتصبح إضافات اقتصادية مهمة في بلدان العالم الأخرى. في قلبي يسكن جمال عبد الناصر، الرمز القومي والإنسان المبدئي والرجل الشريف النظيف الذي مات فقيراً محترماً، وفي عقلي يُحاسب جمال عبد الناصر القائد الديكتاتور، فاتح المعتقلات، مشكّل جماعات زوار منتصف الليل، والمتسبب الأول في الفوضى الاقتصادية التي تعاني مصر آثارها إلى اليوم. صعب جداً عليّ كتابة هذه الكلمات، ولكن دون قسر النفس على كتابتها، ستبقى هذه النفس ضائعة في ملحمة أسطورية غير واقعية تسببت في إيذاء الكثيرين، وستستمر في ذلك إذا لم نواجه حقيقتها وتبعاتها.
نحن، في شرقنا الأوسط، متخصصون في صنع الطغاة. القائد عندنا ليس موظف دولة، بل هو أب وسيد وكبير العائلة، معيبةٌ محاسبته، ومخجلٌ الاعتراض على أوامره. كم مرة سمعنا المتعاطفين مع الرئيس السابق حسني مبارك وهم يقرون بأخطائه ولكنهم في الوقت ذاته يتأسفون لطريقة معاملته في آخر عمره، فهو رغم المظالم والسرقات والعشوائيات التي تشكلت في عصره وبسببه ومشاريع التوريث وإطلاق يد عائلته في شؤون الشعب المصري، رغم كل ذلك «راجل كبير ومحترم وخدم البلد وعيب نعامله كده»، على حد الكثير من التصريحات التي سمعناها ومن أشخاص يفترض بهم أنهم واعون مثقفون. وهكذا سنبقى نقول «عيب وما يصحش» إلى أن ينتفخ الوحش ويأكلنا أو تنتفخ آثامه فتنفجر في وجوهنا.
أكبر مصائبنا الشرق أوسطية اليوم هي مصيبة فلسطين المحتلة، وهي مصيبة كلنا شاركنا في صنعها وإن كان بمجرد القبول بمواقف حكوماتنا المختلفة (والحق يقال إلى حد كبير، الكويت استثناء جميل) من معاناتها ثم الصمت تجاه تماديهم بمصادقة محتلها. نعم، هناك خوف من الاعتراض الصريح على مواقف هذه الحكومات، الذي ستكون تبعاته على الأفراد في أقلها مضار اقتصادية وحياتية، وفي أشدها اختفاء من على وجه الأرض، إلا أن هذا الخوف هو خوف من صنع أيادينا، طبخناه بمفاهيمنا العشائرية ورضوخنا الأبوي، واليوم نأكله سماً زعافاً مجبورين شاكرين مبتسمين.
الشعوب الغربية المجبولة على الحريات والتي تعلمت، بعد ألف سنة من الصراعات والمعاناة تحت أنظمة ملكية قمعية طاغية، أن القائد هو موظف ليس فقط قابلاً للمحاسبة، بل هو الأحق بها وبأشد وأقسى صورها وأنواعها، هذه الشعوب خرجت ومازالت في مظاهرات حاشدة مستمرة منظمة لنصرة الشعب الفلسطيني وحقه في أرضه على الرغم من مضايقات وتهديدات حكوماتها، وتعرف هذه الشعوب بأنها مجرد مضايقات وقتية وتهديدات فارغة، ولمَ تعرف ذلك؟ لأنها تعلمت من ماضيها وتدربت في حاضرها البعيد والقريب على تغيير النظرة التقديسية للقائد، ومن ثم وضعه موضعه الطبيعي كبشر، ليس فقط قابلاً للمحاسبة، بل مرة أخرى هو الأحق بأقسى صورها وأنواعها، فعلى قدر المسؤولية وعلى قدر خطورة المنصب وأهميته، تأتي المحاكمة وتتجلى المحاسبة. وهكذا وجدنا الشعب الفرنسي يتصدى لقرارات حكومته تجاه المساندة العلنية للقضية الفلسطينية بنزوله الغفير للشارع، وشاهدنا الشعب البريطاني يفعل المثل تحدياً لحكومته، وشهدنا الشعب الأمريكي يهبط بمعاوله النقدية على حكومته برئيسها الذي يستحق وعن جدارة لقب أسوأ رئيس أمريكي على مر التاريخ حتى في وجود منافس له على هذا اللقب مثل ترامب، مواجهاً هذه الحكومة بمظاهراته واعتصاماته، حتى إن طلبة جامعاتهم الشهيرة يتصدون لإدارات هذه الجامعات ويغامرون بفصلهم منها، إصراراً منهم على قول كلمة الحق ومساندة الشعب المظلوم.
أما نحن فلا نتحدى، وإن تحدينا فعلى استحياء، ذلك لأننا لا نخالف آباءنا، ونحترم حكوماتنا ولية أمرنا، ونمرغ وجوهنا في عشق رموزنا وإن انقلب حالهم وتكشفت مساوئهم. لذا، نحن غير قادرين على مجاراة الشعوب الأخرى في موقفها من فلسطين، لأننا غير قادرين على مجاراتهم في مواقفهم من قادتهم وحكوماتهم. ومثلما كان لعبد الناصر موالون عاشقون يرفضون أن يروه سوى بعين الرضا، كذلك للرئيس السيسي موالون عاشقون يرفضون أن يروا خراب الفكرة ودمار المبدأ وغرابة الموقف بأكمله، يرفض هؤلاء رؤية تأثير كل ذلك داخلياً على حيواتهم وشؤون بلدهم، فهل سيمعنون النظر لرؤية التأثير الخارجي، هل سيفكرون في ألم ومعاناة الفلسطينيين وهم يرفضون أصلاً الاعتراف بالألم والمعاناة المصريين؟
ومثل المصريين (وعليهم التركيز الأكبر نظراً لقربهم الجغرافي و»امتلاكهم» معبر رفح الحيوي للغزاويين حالياً) هناك خليجيون بمن فيهم الكويتيون، وهناك يمنيون وعراقيون، ومغاربة وليبيون وجزائريون وغيرهم في أنحاء الوطن العربي، هناك الساكتون منا إما خوفاً على مصلحة أو اقتناعاً بعنصرية أو ارتعاباً من تبعة كلام لن تبقي ولن تذر، وأسوأنا هم الساكتون احتراماً للرموز وتقديراً لأبوية القيادات الحكومية، بل والمعارِضة أحياناً (مثل تجربتنا مع معارضة الكويت)، فهؤلاء يصنعون دكتاتوريات «ملحمية» ستتعداهم وتلتهمهم بعد حين. نحن خائفون باستمرار، خوف سياسي، خوف أبوي، خوف ديني، المهم أننا خائفون بلا لحظة سلام، ومن خوفنا المستمر هذا صنعنا أشباحنا المرعبة.
*مع الاعتذار من الكاتب والمتحدث الفذ أنيس منصور