كانت ليلة مليئة بالتوتر، يوم الأحد الماضي الذي زامن المباراة الأخيرة لكأس العالم، حيث ازداد طينه بلة في بيتنا مع ارتفاع حس الفكاهة لدي حيث لم يكن يجب أن يرتفع، ومع روقان مزاجي للمزاح حيث لم يكن يجب أن يروق. سألت زوجي بضعة أسئلة عن اللعبة مع الربع الأخير من المباراة والتي جاوبها من تحت ضروسه، ثم ألقيت دعابة ابتسم لها ابتسامة صفراء ثم تليتها بأخرى أوردتني نظرة نارية غاضبة ألجمتني الصمت إلى نهاية المباراة.
فازت الأرجنتين ليصرخ المعلق “أخيراً أنصفتك الدنيا يا ميسي،” فابتسمت حذرة وعلقت بصوت مسموع: “فعلاً؟ أخيراً أنصفت الدنيا ميسي؟” لم يعلق زوجي الذي كان مشغولاً بفرحته الهادئة بفوز فريقه المفضل ولم أعد أنا إلى قولي الهزلي لشعوري أن للفرحة حق لا يجب أن أتعداه بالتفلسف عليه، إلا أن كل ما كنت أفكر فيه هو معنى هذه اللعبة، دلالات مداخيلها الطائلة، حيثيات العلاقات السياسية الملازمة لها، والبعد العالمي لاستضافتها بمونديالها بالنسبة للدولة المضيفة، وقبل كل ذلك تاريخ بداياتها التي تحكي بعض القصص وتتحاكى عن دمويتها وشراستها. الموضوع برمته يبدو ممسوكاً بيدين، يد رأسمالية جشعة تدر المليارات وتأخذ المليارات لتفيد الكبار على حساب الصغار الذين يأتون بمئات الآلاف “حجاً” باتجاه فريقهم، “مصلين” من أجل انتصاره في إدخال كرة دائرية في شبك غليظ، ويد تشتيتية تحاول بعثرة الانتباه عن المشاكل الحقيقية والآلام العميقة للبشرية بتطويع جموع البشر وتسييرهم وترويضهم عن طريق ما يشبه “العبادة الحديثة” لفريق مستعدة هذه الجموع أن تموت، أحياناً فعلياً، من أجله.
أعلم بالتأكيد أن للموضوع بعد مختلف، وأن لهذه الفرق الرياضية تأثيرات قومية حميدة من حيث قدرتها على توحيد صفوف المختلفين وتخفيف حدة العنصريات والتمييزات التي قد تفرقهم ولو إلى حين، فتجمع بين قلوبهم على فريق رياضي وطني وتقوي مشاعرهم القومية محبة وإخلاصاً لبلدهم. كما وتقارب هذه الرياضات بين الثقافات المختلفة، فلا يمكن مثلاً أن نتجاهل كيف أن مونديال هذه السنة جلب العالم للثقافة العربية، ليختبر العالم ولأول مرة عن قرب الموسيقى العربية والأكل العربي والثقافة العربية الداخلية، ولينتهي المونديال لأول مرة “بالبشت” الخليجي بازغاً على شاشات التلفاز حول العالم. كما وأعرف، وعن تجربة، القيمة الترفيهية الرائعة للعبة، حيث حَضَرْت ذات سنة، مجبرة لا مخيرة، مباراة بين برشلونة ومدريد على أرض برشلونة، ورأيت بأم عيني وسمعت بأم أذني ثمانين ألفاً من الحضور وهم يحبون ويغضبون ويعترضون ويهزجون ويحتفلون في نَفَس موحد، حتى أصابتني لوثة القومية الإسبانية، وأخذني الحماس في تشجيع فريق برشلونة وأنا لا أفقه شيئاً عن اللعبة. لقد اختبرت في ذلك اليوم تأثير اللعبة على الروح، استثارتها لكل المعاني النبيلة بالنفس وفي ذات الوقت إيقاظها لكل التوجهات العنيفة التي قد تطفو بقوة إذا ما لم تضبطها النفس ويستشعرها العقل ويتحكم فيها شيء من الثبات والاتزان الداخليين.
ورغم كل ذلك، رغم كل المعترف به من التأثيرات الإيجابية للعب الرياضية ومسابقاتها العالمية، إلا أن ذلك لا يمحو أهدافها الاقتصادية والسياسية الشرهة، تبعاتها الاستشكالية، وآثارها العنيفة التي قد تصل حد بشع في الواقع. فمباريات كرة القدم تحديداً شهدت أعمال عنف في الماضي ما نتج عنها وفاة مئات الناس تدافعاً أو اختلافاً أو تعاركاً في الملاعب وأحياناً قياماً لحروب حقيقية لاحقة للمباريات التي أشعلت الفتيل الأول لهذه الحروب. كما وأن المليارات التي تصرف على هذه المباريات والتي تُدفع للاعبيها الذين “أنصفتهم الدنيا أخيراً” تستثير تساؤلات خطيرة حول أولوياتنا الإنسانية، حول مصير أغلبية بشرية تموت جوعاً وعطشاً وتشرداً وغرقاً في مياه المحيطات وتوهاناً في الصحاري التي تفصل البلاد ورعباً تحت قصف الطيارات الحربية، فيما جزء يسير مما يُصرف على هذه المباريات يمكن أن يغير جذرياً من حيوات هؤلاء الناس وينقلهم من مصير إلى مصير.
ميسي لاعب محترف، صولاته وجولاته و”تكنيكه” في الملعب لا يعلى عليهم، إلا أنه لم يخترع اختراعاً عظيماً ولم ينقذ البشرية من مصيبة ولم يحل مشكلة الجوع في العالم، هو ماهر في تصويب الكرة في الشبكة، أبعد من ذلك، ليس له إنجاز، فلماذا يحوز كل هذا الحب “التعبدي” وكل هذا التعاطف السرمدي حتى أن الناس صلّت باكية “إنصاف” الدنيا له؟ الرجل هو أحد أغنى أغنياء العالم، ومن منتصف ثلاثينياته، حيث سيتقاعد، سيعيش حياة فاخرة إلى آخر يوم في حياته، وكل ذلك من أموال المشجعين المجنونين به وبإنجازاته، أين المنطق في كل هذا؟
بعد دقائق من الفوز، بدأ المشجعون بالظهور على وسائل التواصل صارخين بخليط من فرح وغضب وانفعال غير مبررين ولا علاقة لهم ولمحفزاتهم بالصارخين لا من قريب ولا من بعيد. هذا التوهج والانفعال والحماس، هذه الاستثارات العاطفية والتي تصاحبها مظاهر جسدية عنيفة واضحة، كلها يمكن استخدامها لتجنيد البشر حتى وهم في بيوتهم لخدمة اتجاهات وميول وتوجهات سياسية وعسكرية وغيرها، إلا أن أهم مُخرجات هذه الانفعالات الحادة هو “الملايين”، ليصبح الأغنياء أكثر غنى ويمسي المتوسطين والفقراء أكثر انفعالاً وأسهل تحريكاً وأفقر حالاً.
لقد أضحت الفرق الرياضية خطوط حدودية أخرى بين البشر تفصلهم، بعد أن فصلهم العرق والدين والأصل واللون والحدود الجغرافية والمدنية وأوراق الهوية والجنسية، وتعمق مشاعر انتماءاتهم في مساحات غاية في الضيق، مساحة نادي فريق في حي من منطقة من دولة من العالم كله. أستشعر الانفعال البشري الجمعي في مونديال هذه السنة، ولا أخفي تفاعلي مع هذا التواصل الثقافي الرائع، لكن التفاعلات “الأفيونية” المهتاجة المصاحبة للحدث مخيفة وهي تدلل على قوة هذه النزعة العنيفة البدائية والسطحية في النفس البشرية، تلك التي تنفجر بأعنف الصور وعلى أتفه الأسباب. عموماً مبروك للأرجنتين وشكراً لقطر تعريف العالم كله بثقافة زاويتنا الخليجية منه، والآن شيء من الهدوء.