تضيء شاشة تلفوني، تبرق كلمات سوداء على خلفية صورة لابنتيّ الصغيرتين: «موعد المقال الأسبوعي». حالة بيولوجية أمرُّ بها، تخدر أصابعي وتتسارع نبضات قلبي، صور وأشخاص وأحداث لأختار منها، أتمنى لو اتسعت صفحات «الجريدة» لأحشرهم جميعاً في مقال الأسبوع، وكأنه أسبوعي الأخير في الدنيا، فرصتي الوحيدة للبوح قبل المغادرة.
يتشكل المقال بعد معاناة، ويصدر حبراً على صفحة، أرتاح قليلاً، وغالباً أتأزم كثيراً بعد أن تفلت الفكرة وتصبح في يد القراء عارية من حمايتي لها، ولا تلبث الشاشة أن تضيء مجدداً «موعد المقال الأسبوعي» فتخدر الأصابع وتضيق العيون ويستعد الجسد بعقله ليفلت الفكرة، مقامراً بها، مراهناً عليها، مضحياً بها وبشيء من خصوصيته وأمانه.
دائرة مضنية أحوم حول حدودها وأقطع قطرها إلى أن تتقطع أنفاسي فأتأفف المسؤولية وأحسد الخالين منها، إلى أن جاء يوم شَق الدائرة وقصف قطرها، فوقفت في المنتصف ضائعة مذهولة، لا أدري أي ريح عاتية ضربت، ولا أي «فرجار» انحرف فخرب الدائرة وفتح منحناها، فاندلقنا منها جميعاً إلى الخارج، وقد انقلبت الصور واختلت الموازين.
ودَّعتني «أوان» فجأة، وبفجأة أعني في دقيقة، فلم يتسنَّ لي حتى أن أرد وداعها، أن أدشن ختامها، أن أعقد سلاماً في داخلي على فراقها. احتل مقالي الأسبوعي مكانه منذ العدد «الأواني» الأول، وقد تكون هي عبثية القدر، أن يحتل مقالي الأسبوعي مكانه في العدد الأخير كذلك. وتلك هي «الطبيعة» زمن ينتهي وآخر يبدأ أحياناً دون أن يرحمك المنتهي أو يهملك البادئ، فتحزن وتغضب وتتأسى ثم… تتلقفك الأيادي، وتفتح لك دوائر إنسانية أخرى منحنياتها، ولا تلبث تجد نفسك تدور من جديد، وإذا بالدائرة التي تشتكي منها هي الأهم في حياتك، وهي ما يعطيها معنى وتوازنا، وهي… ما كنت دوماً تريد. أكره الوداع، ولكنه عندما يأتي وأيادي أصدقاء تمتد لتعينك وقلوبهم لتحبك وكلماتهم لتلين وحشتك، يصبح الوداع أسهل وأقل وحدة وغربة.
للعمل مع الدكتور محمد الرميحي نكهة خاصة، وتبعة ضخمة، أكتب الكلمة وأراجعها مرات، خوفاً من… هدوئه. أتوتر إذا حرك نظارته، وأتخيله يعبث بها وهو يقرأ مقالي فيغرق قلبي، وبحسب حجم الرضا، يأتي التبختر زهواً.
تجربة العمل مع الدكتور الرميحي تجربة «طاحنة»، فإما أن تكون كاتباً جيداً، وإما …ألا تكون، ألم التخرج المفاجئ من هذه المدرسة الصارمة خففه الالتحاق بالمدرسة الجديدة، شابة وصغيرة ومليئة بالأصدقاء. منذ اليوم الأول لمغادرتي «أوان»، أو لمغادرتها لي، فتحت جريدة «الجريدة» دائرتها، وتكالب الأصدقاء بمحبة على جذبي للداخل، وما إن خطوت الخطوة الأولى، حتى استقبلني خالد هلال المطيري بمكالمته التلفونية، أراه بعيني خيالي مبتسماً مرحباً، كما هي عادته دائماً، متفحصاً، بنظرة جانبية وبعينين تدوران سريعاً في محجريهما، هذه التي سيسلمها عموداً أسبوعياً، متسائلاً في دخيلة نفسه: ترى هل سيحدث هذا «الكليك»؟ عبء أن يثق بك الآخرون، والعبء مضاعف أن يخلصوا لك الترحيب والمودة ويسارعوا لتلقفك وأنت لاتزال تدور على وقع الضربة، لكنني سعيدة «بربعتي» الجديدة في «الجريدة»، والتي سأغرقها اهتماماً وخصوصية كعادتي وكل ما «أملك»، «فربعتي» ليست سياسية وليست ثقافية وليست حتى ليبرالية، لكنها لي، أحكي فيها أحياناً بخصوصية وأحياناً باندفاع، لكنني أحكي، فالحكايا سلعتي، وأنا ملك للحكايا، وأبدأ معكم من حيث ودعني د. الرميحي، وهو يقول مؤنساً «الدنيا أجمل وبالعزيمة تكون أرحب»، وتبقى الكتابة أيها الأصدقاء… أحلى الأقدار.