كم مرت السنوات سريعة، والعمر مهرولاً، ليتغير معهما الكثير، فتتخفف الروح من آلام، وتنوء تحت حمل مخاوف أخرى، يستبد بي بعضها الآن، لا أجد لها معنى، لا أجد لها مغزى، أجدها فوق أرقها محرجة، حتى أنني قررت أن أواجهها بالكتابة عنها.
سأحكي الحكاية من أولها. ذات يوم، منذ ما يزيد عن الخمسة عشر عاماً بدأت أقول، كنت أقول أشياء كثيرة بحماسة كبيرة ويقين شبابي بحقيقية التغيير. كانت أيام سعيدة على صعوبتها، حين كنت أؤمن بسذاجة أن التغييرات الجذرية يمكن أن تقع في زمن عمر الإنسان النسبي، وحين كنت أتصورني نقطة حبر ستترك بقعتها، مهما صغرت، على وجه الحياة، حياتي وحياة عائلتي وحياة وطني ولربما، ولم لا؟ حياة البشرية كلها. كانت روحي جميلة، بعد ما أثقلتها التجارب، ما قبعت على أنفاسها أخطاؤها، ما أنهكها تعذيب الضمير ومحاسبة النفس، وآه من محاسبة النفس، أكثر العمليات النفسية الإنسانية ثقلاً وإيلاماً. كان داخلي بسيطاً وبريئاً، بعد ما واجه الأوجاع التي تصنعها البشرية بنفسها لنفسها في أغرب الظواهر الطبيعية وجوداً.
تكلمنا في زمننا، نحن المتفقين أيديولوجياً، كثيراً عن العلمانية والليبرالية الاشتراكية والحريات الشخصية، حاربنا ما نراه تطرفاً وساندنا ما آمنا به حقوقاً إنسانية وسياسية، غصنا في القضية الفلسطينية، وفرحنا بالثورات الربيعية العربية، فظهر من بيننا من ترك أثراً حقيقياً أزهرت له النفس، حتى كدت وكدنا نوثق لأنفسنا حقيقية التغيير. أتذكر كيف أننا هنأنا أنفسنا بعد مرور بضع سنوات على الاسترخاء العام أمام كلمة «علمانية» مثلاً، التي كانت سابقاً ترن في آذان الناس «أعلوا هُبل». قلنا لأنفسنا إن مجرد رفع درجة القبول وفتح باب الحوار حول العلمانية هو إنجاز، وسيتبعه الأكثر والأكبر. كنا نعتقد في العمر امتداداً وفي الدنيا مرونة، فتبين أن العمر حبله مثل الكذب، قصير، وأن الدنيا «العربية» مرونتها مثل الحديد الصلب، معدومة. حين أتذكر هذه الشابة التي كنتها أكاد لا أعرفها، لا أتذكر بوضوح مشاعرها ولا أستطيع اليوم تذكر دوافع ردود أفعالها. كنت أتحمس كثيراً للعمل، لكنني أتوجع من رد الفعل، وأتألم من الاتهامات والهجمات، فتأخذني طاقتي الشابة لأتناقش بحماسة وأفند باجتهاد وأتواجه بقوة. كان زمناً نشطاً جميلاً، كان وقتاً حياً حين كنت بعد أتوجع لما يقال، وأجاهد لإثبات موقفي وبراءتي.
تغيرتُ اليوم كثيراً، لا أدري إن كان للأفضل أم للأسوأ. أصبحت أكثر واقعية، أقل توجعاً، وأكثر تجاهلاً، وهو السلوك الذي رغم أنني أنتهجه، إلا أنني -حقيقة- أكرهه لقسوته ولأنانيته. استوعبتُ اليوم أننا في الغالب نعمل لجيل لاحق، عندي منه عينة في البيت، تسائلني وتحاسبني طوال الوقت، تنتظر مني أكثر أحياناً، وتسخر من كل جهودي الضائعة أحايين أخرى. آمنت أن العمر أقصر من الأمنيات، وأن النتائج التي أتوق لها لنفسي ما بقي لي سوى أن أتمناها لغيري، لأناس لن أعرفهم ولزمن لن أعيشه.
لدي اليوم كمّ جيد من التجارب التي تملؤني هدوءاً، كمّ هائل من الذكريات التي تملؤني حنيناً، وكومة كبيرة من الآمال الآسنة، قيد الانتظار. أمتلك اليوم كذلك قدراً مريحاً من اللامبالاة تجاه قسوة الآخرين وإيذاءاتهم، لتساعدني في ذلك إلى حد كبير وسائل التواصل، التي أتت لتشكل هذه الإيذاءات تجريدياً، كأنها حالات هلامية منفصلة، واضعة مسافة بينها وبين حياتنا وواقعنا. بكل تأكيد، مازالت القسوة الفواحة في وسائل التواصل خطرة، تهدد ليس فقط الصحة النفسية لكن الحيوات الفعلية، إلا أنني بت أتعامل معها وكأنها قادمة من أشخاص آليين لا قلب لهم ولا روح، تماماً كما يتخيلني الكارهون، قطعة بلاستيكية على الطرف الآخر من تعليقاتهم لا تحس ولا تشعر. في خيالي هذا، أحمي نفسي منهم، وفي خيالهم ذاك يبررون ويسهلون كراهيتهم وقسوتهم، ليبقى التفاعل البلاستيكي هو في النهاية المسيطر، عوضاً عن التواصل البشري الحقيقي الذي كان ذات زمن. هذا ولا بد هنا أن نتذكر أن القسوة والإيذاء هما جزء من تكويناتنا السلوكية البيولوجية، وأنهما، كسلوكين، أسرع انتشاراً وأوضح ظهوراً، رغم وفرة الرفق والرحمة وانتشارهما الواسعين. أعتمد كثيراً على هذه الأفكار في حماية نفسي في زمن يدخل فيه كل البشر بيتي وأدخل أنا إبانه بيوت كل البشر، أتكئ على تجاربي، وأحتمي بخبرتي مع الزمن، أن كل شيء يمر، كل ألم يخفت، كل وجع يبهت، لو أعطيناه وقته وسامحنا أنفسنا والآخرين.
إلا أن التقدم في العمر، بكل إيجابيات الاستقرار والرضا والهدوء، له في نفسي، مؤخراً، أثر آخر، لا أفهم كنهه، ولا أدري سبب سيطرته على فكري. بدأ قلقي يتراكم بعد وفاة نوال السعداوي، حين شهدت تعامل الناس من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مع موضوع وفاتها. أعرف كما ذكرت آنفاً، أن الرحمة وفيرة وإن كانت خفية، وأن الكراهية غير سائدة وإن كانت ظاهرة صادحة، وأن طبيعة وسائل التواصل تراكم القسوة وتفرق الخير والرحمة، إلا أن الفزع لا يزال ينتابني حين أفكر في قسوة هذه الأمة التي «تأكل بناتها». حين يحين وقتي، إذا ما تذكرني أحد، كيف سيأتون بسيرتي، كم عدد اللعنات التي ستهبط على جسدي الساكن، وما كمية الكراهية التي سيصوبها بعض أبناء جنسي تجاهي وأنا بلا قدرة على الصد أو الرد؟ ما حدث بعد وفاة السعداوي يؤكد أن هذه أمة تأكل مختلفيها، وبالتحديد إذا كانوا إناثاً، تمضغهم بحقد وتلفظهم بأذى، تغسلهم بكراهية، تكفنهم بالشتائم، وتدفنهم في قبر أحقاد لا تختفي، أحقاد لا يأكلها الدود.
حين أسائل نفسي لماذا أفكر في ذلك؟ لم كل هذا القلق وأنا لن أكون واعية لأدرك ما سيفعله الناس بعدي؟ لا تلبث أن تحضرني صورة الصغيرة ياسمينة، بالتحديد هي، وهي تودع أمها وقد صار عليها أن تتحمل الشتائم واللعنات، وأن تتعامل مع الأحقاد والكراهيات، فيذوب قلبي حزناً وتنفطر مهجتي لوماً وتقريعاً لنفسي، سأسبب لياسمينة متاعب كثيرة في هذا العالم الذي لا يرحم.
ليتني أغيب تماماً عن كل ذاكرة قبل أن يحدث كل هذا، قبل أن تودع ياسمينة أمها بقلب ينفطر بسبب قسوة لا يد لها فيها. لقد كان للدكتورة السعداوي أياد بيضاء كثيرة على النساء، خصوصاً نساء صعيد بلدها، لقد أنقذت حيوات، وحمت أجساداً وأرواحاً، وكتبت ونقدت وصدت وردت، فكيف ودعها عالمنا القاسي؟ وإذا كان عالمنا هذا قد أكل السعداوي لحماً ورماها عظماً، فما سيفعل بنا نحن؟ من عملت منا على هامش الحياة، بالكثير من الإخفاقات والقليل من الإنجازات؟ لن يرحمني ونساء جيلي أحد، وستدفع ياسمينة ثمناً كبيراً. عسى أن يكون قدر الجيل اللاحق لنا أفضل، وأن يتغير عالمنا بشكل أكبر، وأن يكون لنساء المستقبل حظ أوفر. رحم الله نوال السعداوي وأحسن مثواها.