بعينين شبه باسمتين، محملتين بوقار بدا معداً للمهمة التي أوكلت نفسها بها، اقتربت مني هذه الفتاة المتشحة بالسواد الا من منطقة العينين، وبكل أدب جم، عرفت عن نفسها بأنها طالبة دراسات عليا، فخمنت أنا مباشرة أنها في منتصف العشرينيات، فهو العمر الذي يبدأ منه معظم طلبة جامعة الكويت دراساتهم العليا. نظرت في وجهي للحظة وكأنها تحاول قراءة ردة فعلي قبل أن تقدم على فعلها، ثم مدت لي يدها بكتاب. بحركة عفوية مددت أنا يدي لألتقط المغلف الأزرق ذو العنوان الأبيض الكبير، عنوان من هذه العناوين ذات الكلمة الواحدة الشاملة الكاملة القاطعة الحاكمة. نظرت اليها بابتسامة استفهام، فأخبرتني بشيء من الخجل والوجل أنها تعرف آرائي وسبق لها أن قرأت بعض مقالاتي وتابعت شيئا من مقابلاتي، وأنها ارتأت على اثر كل ذلك أن تهديني هذا الكتاب. أسقطت عيناي على الكتاب علني أجد اسمها على الغلاف، لربما هو اصدار من نابغة شابة أحبت أن تشرفني بنسخة منه، الا أن عيناي وقعت على اسم يسبقه لقب “شيخ”، وبجمع الاسم الملقب مع العنوان “المقبب” استنتجت في لحظة روح الهدية.
صعدت عيناها الى عيني بسرعة وقالت ما معناه: دكتورة بس حيبتك تقرأين الرأي الآخر، قلت أقدم لك وجهة النظر في هذا الكتاب يمكن يكون لك رأي فيه. بود خالص شكرتها الهدية القيمة، فكل كتاب هدية قيمة، محاولة بصدق أن أحول ابتسامتي من ابتسامة محبطة الى أخرى ممتنة. فأما الاحباط فيعود لسببين، أولهما أنني كنت أتمنى لو أعلت هذه الفتاة صوتها، لو عبرت عن رأيها عوضاً عن الاستشهاد بكتاب “لرجل” آخر، وثانيهما فيعود لرؤيتي لشابة في مقتبل العمر، للتو تخطو في عالم الأكاديمية وللتو تقتحم معترك تجارب الحياة، تحمل نفسها ذات العبء التقليدي وتدفع بنفسها الى ذات الفعل المفرغ من المعنى الحقيقي، فتحاول “هداية” الآخرين معلنة نفسها، ضمنياً باقدامها على هذا الفعل، مهتدية تامة المعرفة.
حملت هذه الفتاة نفسها عبء هدايتي، وجدت نفسها بحكم أنها مسلمة، مسؤولة عن التغيير ولو بأضعف الايمان، اعتقدت نفسها مأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أفضل السبل الى ذلك سوى بحمل كتاب ذو عنوان ثقيل موشح باسم مؤلف ذو لقب ديني أثقل الى هذه التي تعتقدها قد ضلت السبيل؟ ما عرفت هذه الشابة كم هو فعلها قديم ومكرر، كم هو تقليدي و”كليشيهي” حتى أنه أصبح مفرغا من المعنى الأصلي الطيب لاهداء الكتاب. يكفي أنها مسلمة ويكفي أنها صنفت نفسها متدينة أن وجدت لنفسها المبرر وشقت لنفسها المنفذ ووضعت على عاتقها الحمل في أن تزورني في مكتبي وتهدي لي كتاباً سينتشلني ويثيبها. مبهرة هذه الفكرة فعلاً.
حملت هذه الفتاة نفسها عبء هدايتي، مرة أخرى بحكم أنها مسلمة، مصنفة متدينة، حتى أنها اعتقدت أنها تستطيع تخطي الفارق الزمني والعلمي بيننا، ما حملتني اياه الحياة من تجارب وما زودتني به الدراسة من اطلاع في الغالب يفوق ما اطلعت هي عليه. طبعأً، هذه القاعدة تحتمل الكثير من الخروج عنها، فليس كل صاحب شهادة مطلع أكثر من غيره، وليس كل متقدم في العمر مستفيد من تجاربه أكثر ممن يصغره، ولكن، فارق العمر وسنوات الخبرة والدراسة، خصوصاً اذا اجتمعا، أي التقدم في العمر وفي المرحلة الأكاديمية، ينبغي لهما أن يوضعا في الحسبة عند الاقدام على أي محاولة استعراض معرفية. الا أن البحر يجري اليوم باتجاه من يضع العمامة ومن تسدل السواد، هذا أو تلك يصبحان في لحظة علماء في الدين، شيئ ما في مظهرهما يلبسهما لباس المصداقية ويحمل كلامهما وزناً ما كان ليكون لحليق أو “كاسية عارية.” انفتح المجال وأصبحت هذه مهنة ما لا مهنة له، والتتويج لا يحتاج سوى الى صاحبه، يضع بنفسه تاج المشيخة والعلم الديني على رأسه، ولسبب ما، مرة أخرى لربما المظهر، لربما الآيات المعدودة التي يحفظها، لربما الكتابين أو الخمسة أو الستة التي قرأها، يصادق الناس على التتويج، ويباركون البيعة، فيصبح لهؤلاء كلمة وقيمة وأمر ونهي، فيتحكمون، باندفاعهم واعتقادهم بامتلاك الحق المطلق، في مصير أمة كاملة.
لا أدعي أن زائرتي من هذا النوع، لا أعرف حقيقة الكثير عنها، لكنها ذكرتني، بتصرفها الطيب الجريئ في ذات الوقت، بالكيفية التي يُصنع بها “علماؤنا”، بالطريقة التي يكتسب بها حراس الدين عندنا قوتهم وسطوتهم، بالأسباب التي تدفع الصغار الذين تملأ فيديوهاتهم وصورهم فضاء الانترنت وهم يعظون ويخطبون ويكسرون الآلات الموسيقية ويأتون غيرها من أفعال “الدفاع عن الدين” الى اتخاذ مراكز القيادة، مؤمنين أنهم محملين برسالة الخالق، وأنه على أيديهم سيستتب الحق المطلق وتتم رسالة الله. مبهرة هذه الفكرة فعلاً.
تأثرت من هدية الشابة كثيراً. فقد كلفت على نفسها مشقة الزيارة، وغامرت بالاهداء وهي لا تعرف كيف سيكون رد فعلي، خصوصاً وأن للكتاب عنوان يوحي بتوجه طائفي واضح، والأهم والأوقع أنها عبرت باهدائها هذا عن مواقع القوى ها هنا: هي الهادية وأنا هدف الهداية، هي في الموقع الأقوى بحكم تدينها وأنا في الموقع الأضعف بحكم “تبرج” آرائي. اذا اعتقدت هذه الفتاة أنها وصلت للحق المطلق في هذا العمر الصغير، ففيم ستقضي بقية عمرها الذي أتمناه لها طويلاً سعيداً أمامها؟ تلك حياة ستكون مملة جداً.