تحميل إغلاق

العذارى العرب

العذارى العرب

في غياب واضح لهوية قوية ومشرفة للعرب والمسلمين، وفي خضم انشغالهم بالدفاع عن أنفسهم ضد تهم التطرف والإرهاب والتراجع الحضاري والتخلف العلمي تجدهم يتمسكون بشظايا الهويات وبذيول الأهداف والمعاني، ليتبدد من خلال نزاعاتهم على هذه البقايا من الهويات والمعاني كل عمق حقيقي لكينوناتهم وانتماءاتهم. تلقت الهوية العربية طعنتها الأكبر مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأتت نكبة 67 لتغرس خنجراً في الخاصرة ما زال على أثرها العرب ينزفون ويتأوهون. توالت بعدها النكبات والهزائم والتي أصبحت مركزة داخلياً، متمثلة في عمق السياسة والاجتماع العربيين الإسلاميين: سلطات شمولية، طغيان ديني استبدادي، اعتقالات وسجون وتعذيب، جماعات دينية مسلحة، فقر وجهل وعبودية (حقيقية ومقنعة) وماض عظيم ذرته الرياح ومستقبل مظلم لا تبشر بشمسه لا نسمة ولا لمعة ضوء. انه ظلام دامس.
تطغى علي هذه الفكرة كل مرة أحضر مؤتمرا يمتلئ بلفيف من الأكاديميين والمثقفين العرب ذوو الحوارات، ذوو النزاعات، ذوو الغضبات، ذوو الأصوات، حتى لغة الجسد ذاتها، كلها تداري قلوباً وعقولاً وكرامات طحنها تاريخ طويل، هرستها متاعب ومصاعب يومية، أفرغها اليأس مما يجب أن تقول وتشعر، شحنها الغضب والمرار بالقسوة، فلم يعد يصدر من معظمها سوى الكلام الانشائي والمشاعر الصاخبة المبالغ فيها. في مؤتمر أخير حضرته تنازع الحضور العربي على خلفيات سياسية، كما ما بدا لي، عوضاَ عن تحاورهم حول المحتوى الكلامي للمحاضرات. كان هناك الكثير من التعليق على شخوص الحضور، وليس الكثير على فحوى وقيمة الكلمات. أتذكر تحديداً نزاعاً مطولاً على محاضرة ألقاها أحد المسؤولين العرب باللغة الإنكليزية، وفي حديث جانبي لي مع بعض الحضور، قال أحدهم معلقاً: لقد شعرت بالسيف ينزل على رقبتي، انها إهانة، انه تحطيم للكرامة العربية ألا يستخدم هذا المتحدث العربية. بادلت محدثي بعض الآراء ثم توقفت تماماً عندما تبين لي أن الموضوع نما فوق خلاف سياسي عميق وليس عن رأي لغوي اجتماعي حقيقي، إلا أن الفكرة التي بقيت طاغية والتي لم أستطع كبح جماح النطق بها هي حجم المبالغة الهائلة لما بدا وضعاً اعتيادياً، أو في أسوأ الظروف خطأ دبلوماسيا ليس بالخطير. إلا أن صاحبنا وعدد من الحضور الذين تبادلوا الآراء حول الموضوع أفرغوا كل شحنات غضبهم فوق رأس هذا المسؤول المتحدث، فتحول إلى خائن وعميل، طاعن للكرامة العربية، محطم قلوب العذارى العرب الذين (بدا أنهم مؤمنون) لم يخونوا لغتهم وهويتهم في يوم.
ولقد بدا أن هدوء ردة فعلي، حيث أخبرتهم أن الموضوع لا يحتاج لكل هذا الغضب وأن المبالغة في ردة الفعل تسرق من جدية وقيمة المبدأ، قد نفخ في جذوة غضبهم. فقد كان معظم محدثيّ من دول تعبة أكثر من «المعتاد»، دول أرهقتها النزاعات وتجاذبها الساسة حتى تقطعت أشلاء في أياديهم، ومن يده في النار غير من يديه في الماء، وما كان يحسن بي أن أرمي بهدوئي أمام آلامهم ومتاعبهم. اعتذرت وقلت أنني لربما علقت حول ما لا أفقه وأنني لربما مسست جرحاً من دون أن أقصد. بادلني بعضهم الاعتذار اللطيف وأقفل الموضوع في ساعته وحينه، الا أن معناه ومغزاه وعمقه قد حفرت أخدوداً مليئاً بالجراح والآلام والمصاعب والهزائم أمام عيني، فآلمتني آلامهم، وآلمتني ردة فعلهم، حزنت من المبالغة، ونعيت الهوية التي يبكيها أصحابها بالمبالغات والتهويل، تفهمت الدوافع، ولكنني تمنيت لو أننا سعينا جادين نحو حل حقيقي لمشكلة الهوية، نحو علاج ناجع لها لا مجرد ضمادة توضع على جراحها أو لفافة تغطي ضمورها وانكماشها. كلما اجتمعنا نحن العرب تتراكم أحزاننا، وكأننا نذكر بعضنا البعض بما كان وما لن يكون، أفلا تجدنا الرحمة أو نجدها في طرقات أحزاننا؟

اترك تعليقاً