تحميل إغلاق

هل نستحق المغفرة؟

هل نستحق المغفرة؟

لمن يتخفى خلف تاريخ، أو رأي أو موقف سابقين، لكي يحمي نفسه من ألم المشهد الحالي ويعفيها من الموقف المبدئي المطلوب… أنتم سلاح في يد الصهيونية، يقتلون بغضبتكم وتجاهلكم ولامبالاتكم تجاه ما يحدث في فلسطين، أطفالَها وشبابها وعجائزها. لكل أمة تاريخها المليء بالأخطاء كما بالمواقف المشرفة. أن يأتي الآن من يريد أن يصفي حساباته مع أمة تقف وحيدة عزلاء متصدية، بمدنييها الذين لا تملك غيرهم، لأحد أفظع وأعنف صور الاحتلال العسكري الذي مر على البشرية، هذا موقف لا يقل وحشية وبشاعة عن موقف المحتل. اليوم هو يوم وقفة إنسانية واحدة، من أدنى شرق هذه الأرض إلى أقصى غربها، فالقضية ليست عربية، والقضية ليست إسلامية، والقضية ليست شرق أوسطية، هي قضية إنسانية، تعني كل البشر وترتكز على إحدى أهم غرائزهم، غريزة البقاء وحب النوع. إذا كنت ممن يستخدم موقفاً تاريخياً حتى تريح نفسك عناء الوقفة المبدئية المطلوبة متجاهلاً عمليات الإبادة الممنهجة التي يمر بها الفلسطينيون الآن، فأنت بلا شك، تخالف غريزة بقائك وحفظ نوعك البشري.
ولمن يتخفى خلف منطقة وعقلنة يبدوان سخيفين فارغين والأطفال تختنق تحت ركام المباني، أنتم سلاح في يد القوى العظمى القمعية التي تحسبها هكذا، بالقلم والمسطرة، غير آخذة بعين الاعتبار هذا الوعي وتلك الروح وذاك الضمير وذلك الإصرار، إصرار يمضي خلافاً حتى للرغبة في الحياة، إصرار يرحب بالموت في سبيل الأرض. لم يعرف العلم بعدُ تحليلاً لهذه النزعة الإنسانية لافتداء الأرض، للبذل من أجل المبدأ. تلك «أشياء لا تشترى» كما يقول أمل دنقل، لا يمكن فهمها علمياً أو تحليلها منطقياً، وبالتأكيد لا مكان لرفاهية هذا الفهم أو التحليل الآن، لا مجال للتنظير في هذه اللحظة والعمارات القديمة تتهدم على رؤوس أصحابها، والنساء المسنات يقفن مطرودات على أبواب بيوتهن العتيقة، والشباب والشابات يسحلون في الشوارع… مبتسمين. لا تفتح فمك أو تضغط أزرار تلفونك لتكتب عن المنطق الذي يُخَطِّئ الموقف الفلسطيني، أنت ما عشت تحت احتلال مئة سنة، أنت ما طردت من بيتك في وضح النهار، أنت ما ثكلت في صغارك، أنت ما تيتمت في كل أهلك، أنت ما أهنت على حدود مدنك العتيقة التي كنت تتجول فيها بِحُر إرادتك، أنت ما وقفت أمام كلاشينكوف كل صباح وأنت ذاهب لمدرستك، أنت لا تعيش شتاتاً ممتداً لمئة عام، قل هو حب غير منطقي وأمل غير عقلاني، إذا اعتبرتهما كذلك، أو اصمت.
ولمن يتخفى خلف قراءة يائسة، لاستحالة انتصار الحق واندحار الباطل، قراءة يريح بها نفسه من عبء المساندة والإصرار بل وعناء الشعور بالأمل، إذا ما أردت أن تأمل، فدعنا نحن نأمل، وإذا ما أردت أن تصدق، فاتركنا لإيماننا، نحن آملون ونحن مصدقون، ونحن كذلك لأن لدينا مؤشرات وأدلة، لدينا شعب لم يتوقف عن النضال والمقاومة ولا ليوم واحد طوال مئة سنة، لدينا شعب ينجب الأطفال ليثكلهم، يأتي بهم للحياة وقد نذرهم للوطن «جنوداً مدنيين» كم شعباً تعرفه تتعمد أُسَره أن تنجب ثمانية وتسعة وعشرة أطفال توقعاً لأن يموت أغلبهم في حرب تحرير الوطن؟ لدينا شعب شتاته وحدة، واغترابه هوية، ولجوؤه بذور فلسطينية تزرع حول العالم أجمع، فهل مع شعب كهذا يمكن أن نفقد الأمل؟ وأي أمل يبقى للبشرية إن فقدناه في صبر وصمود وإصرار الفلسطينيين؟
بعد أيام أو أسابيع أو شهور، ستخفت بعض الضجة الخارجية، وسيتجه الإعلام لمكان آخر، لمكان فيه «بهرجة» القنابل التي تصنع الأخبار، حينها لا يجب أن ننسى أن الضجة الداخلية الفلسطينية باقية، أن المعاناة باقية، أن الإبادات والاستيطانات والعزل والقمع كلها قائمة، لم تقل درجة ولم تخفت ديسيبل واحداً. الداخل الفلسطيني يتعذب، والداخل الفلسطيني يصمد، والداخل الفلسطيني ينتهك، والداخل الفلسطيني يرفض ويقاوم، سواء كانت وكالات العالم الإخبارية هناك أم لم تكن، وسواء خرجنا في مظاهرات في أنحاء الدنيا أم لم نخرج. هذه هي حياة الفلسطينيين، وتلك هي هويتهم، وذاك هو نضالهم المزروع كأشجار الزيتون على أكتافهم والمعلق كمفاتيح البيوت القديمة على صدورهم. حين يغادر العالم بإعلامه سيبقون، وحين تخفت الأصوات سيستمرون، وحين تضعف الهمم سيقوون. أقل ما نستطيع أن نعد به فلسطين هو أننا لن ننسى، لن تبرد هممنا، ولن تخفت أصواتنا، وهذا أضعف الإيمان.
عظم الله أجر البشرية جمعاء في أطفال مدفونة الآن تحت التراب، وغفر لنا أن ما استطعنا، السبعة مليار نسمة من بني جنسنا على سطح هذه الأرض، أن نضمن لهم فراشاً آمناً ينامون فيه. لا أدري إن كانت هذه جريمة يمكن أن تغتفر، لكن لربما نستطيع أن نوقفها الآن وقبل فوات الأوان. خاطبوا حكوماتكم، خاطبوا زملاءكم وزميلاتكم، خاطبوا أهاليكم، خاطبوا جيرانكم، خاطبوا الغرباء الذين تمرون عليهم في الشارع، هذه بشاعة وقبح ووقاحة وصفاقة وعناد واستبداد وتعدّ وتحدّ كلها تتبدى وتتعرى على مرأى من العالم أجمع، واليوم، وبشكل غير مسبوق، يتفاعل ضدها العالم أجمع. ربما هي صحوة بعد مئة عام، متأخرة لكنها متحققة، فكيف سنستقبلها، وكيف سنقويها ونوجهها؟ هذه هي الأسئلة الوحيدة المقبولة والمنطقية والإنسانية والعادلة اليوم.

اترك تعليقاً