تحميل إغلاق

ماكينة

ماكينة

بمناسبة عيد الحب الماضي، ظهر على وسائل التواصل عدد من التقارير، أهمها من منظمة هيومان رايتس ووتش، حول أخلاقية شراء هذه الأحجار اللامعة الثمينة، حيث تناولت التقارير عذابات عمال المناجم ومشكلة عمالة الطفولة وكوارث حروب العصابات التي تتواصل بها حروب الشركات الرأسمالية الى أن تصل هذه الأحجار للأيادي والصدور والآذان المخملية. الموضوع في الواقع ليس حديثا، وخصوصا فيما يخص حجر الألماس الذي عادة ما يكون قد غرق في بحور من الدماء قبل أن يستقر على الأجساد الآمنة الثرية.
وحجر الألماس تحديدا معضلته معضلتان، فمن جهة فإن التنقيب عنه عملية اضطهادية عنيفة جشعة بشعة من أولها الى آخرها، حيث يصل معظم هذا الألماس ملوثا بعذابات الناس وقد زاد فقرهم فقرا ومعاناتهم معاناة. من جهة أخرى ظهرت مؤخرا تقارير تتحدث عن حقيقة توافر حجر الألماس، حيث تشير هذه التقارير الى أن قيمة هذا الحجر الناتجة عن ندرته ما هي إلا كذبة صنعتها شركات رأسمالية عظمى قررت بينها اتفاقا على خلق هالة حول هذا الحجر مؤطرة بشعارات مثل Diamonds are Forever أو «الألماس الى الأبد» ربطا لهذا الحجر بالحب الأبدي وخلقا لظاهرة إجتماعية مخملية تجعل حجر الألماس ممثِلا لطلب الزواج، فكلما زاد قيراط الألماس أشار ذلك لزيادة محبة طالب الزواج ولارتفاع قيمة عروسه المرتقبة.
وعليه كنت أنا قد قاطعت الألماس منذ سنوات، لا أشتريه ولا ألبسه، وكان الغلاء الفاحش لهذا الحجر مشجعا على هذا القرار ومسهلا له، خصوصا بعد أن تجلت الحقائق مرعبة إثر مشاهدتي لفيلم Blood Diamond الذي ختم على قراري وفعَله مباشرة ودون تردد. وبعد قراءة تقارير هيومان رايتس ووتش الحالية، أفكر بمقاطعة الذهب، الذي لا أملك أصلا الا أقل قليله، إلا أنه قرار يبدو صعبا، فهنا خاتم صغير أهداه لي والدي يوم عيد الأم كاتبا لي في ورقته المصاحبة «أحبك أكثر وأكثر لأنك أم أبيك» وهناك سلسال صغير ينتهي بفراشة رقيقة أهداها لي زوجي يوم عيد ميلادي مصحوبة بنظرة من عينيه لا يمكن أن أنساها، وذاك حلق خلعته والدتي عن أذنها وألبستني إياه في قرار لحظي، لحظات وكلمات ارتبطت بهذا المعدن الذي لولا مصاحبته لتلك اللحظات والكلمات ما حمل في ذاته أي ثمن، فهل أستطيع التخلي؟
كتبت في تويتر إشارة للتقارير وتعليقا على الموضوع واستشارة للمغردين، هل نقاطع؟ فأتت الردود متنوعة، الكثير منها ساخر والبعض منها غاضب لأسباب لا أعلمها، ثم الكثير الآخر منها مؤيد ومعدد لجهات وشركات وسلع أخرى تستوجب المقاطعة نظرا لأنها تتأتى بعذابات الآخرين. وهنا برز السؤال، أين يبدأ الموقف الأخلاقي وأين ينتهي؟ بكل تأكيد لن نستطيع مقاطعة كل السلع ولا معظمها ولا حتى قليلها، نستطيع مقاطعة شركات معينة كبرى أو سلع محددة ذات رمزية جشعية عالية، لكن أبعد من ذلك سيصعب الحياة كثيرا، فما هو التوجه النبيل؟
هنا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مقاطعة بعض السلع قد تؤثر سلبا في حياة العاملين على إنتاجها وترفع من درجة معاناتهم، حارمة إياهم من مصدر دخل وحيد ومحدود رغم خطورته، وهكذا ندخل في صراع مغلق بين الحق الإنساني والحاجة الواقعية. هناك كذلك حقيقة أن الذهب هو المقياس الرسمي للعملات وهو المادة المتعامل بها في البنوك، فكيف التغلب على هذه المؤسسة الضخمة الجشعة التي تتحكم في الذهب وتستعمله؟ هذا وقد أشارت إحدى المغردات الى أن الذهب هو «زينة وخزينة خصوصا للطبقة المتوسطة التي قد تحتاج مبالغ طارئة تجدها في بيع قطعة الذهب» مضيفة انه لا توجد طريقة مضمونة للتحقق الكامل من طريقة استخراج القطعة، فكيف التغلب على كل زوايا الموضوع هذه؟
وآخر ما بقي هو التأكيد على أن تناول الموضوع لا يشير الى أي تعال أخلاقي، في الواقع، ما أنا سوى جزء من الماكينة الرأسمالية الجشعة، وما أحاول سوى تخفيف ضرر ضخم أنا وغـيري مــن الأجزاء المنمنة من هذه الماكينة نتسبب به كل يوم. لربما دافعي أناني بحت، أود أن أستمتع بالحياة وترفها مع تقليل الشعور الحارق بتأنيب الضمير، أود أن أحيا دون تكلفة على حياة الآخرين تجعلني عرضة لغضبات القدر، أود أن أعيش بدرجة معقولة من التوافق مع المبادئ والمثل التي أستصرخها كل يوم حتى لا تتسع الهوة بيني وبين مبادئي فيتسع الشرخ في نفسي وقلبي وضميري. أعلم أن هذا الهدف تقريبا مستحيل، لكن يبقى أن أحاول ونحاول جميعا، ولربما مجتمعين نستطيع أن نحدث فرقا. ما رأيكم؟

اترك تعليقاً