تحميل إغلاق

كوافير

كوافير

في ساعة حنين للماضي، جلست أشاهد مسرحية «العيال كبرت» الأسطورية، وقد أطلقت لضحكاتي العنان مستمتعة بالكوميديا الراقية وبذكاء الموقف والتعابير وتناغم الأداء لعمالقة الكوميديا الذين واراهم التراب الآن وما بقي منهم سوى روعة أعمالهم الخالدة.
مع نهاية المسرحية راعتني جملة سعيد صالح التي ما كنت قد انتبهت لبعدها سابقاً، يقول «سلطان» لوالده محاولاً ثنيه عن ترك البيت وتطليق والدته: «حضرتك بتحب… مدام تحب بتنكر ليه؟ حب زي ما أنت عايز، الحب مش عيب، مش حرام، كل واحد من حقه يلعب بذيله كم يوم، خصوصاً لو كان زيك، حاسس انه لسه شباب». جيل كامل كبر مع هذه المسرحية، سنوات ونحن نشاهدها مراراً وتكراراً، أحببنا كل شخصية فيها، حفظنا جملها وكررناها حتى أصبحت من أقوال جيلنا المأثورة، إلا أنه لم يسبق لي أن تمعنت فعلياً في معنى الجملة السابقة، في رسالة المسرحية النهائية، في واقعية عكسها لمنطق رجولي بحت تشربناه وقبلناه بل وأحببنا معانيه بكل طبيعية وبساطة. سعدنا في نهاية المسرحية السعيدة، بتزين زينب لزوجها واستعادتها إياه، فقد قررت الزوجة أن تحارب لعودة زوجها بتجميل نفسها، وقرر الزوج البقاء في بيته من منطلق إمكانية أن «يلعب بذيله» من دون أن يتخلى عن مسؤولياته.
في حبنا العميق لهذه القامات الكوميدية وفي انغماسنا في نوستالجيا هذه الأعمال الرائعة يخوننا انتباهنا، فلا نكاد نلتفت لفظاعة ما تعمقه مثل هذه الأعمال في الوعي العام، لعنصرية المنطق الرجولي البحت الذي تبثه حول الأدوار النسائية والرجالية، حول المتوقع من المرأة التي دوماً ما نجدها تقف على طرفي النقيض، فهي إما أم حنون مضحية من أجل استتباب أمر بيتها وإما إمرأة لعوب لا تعير المجتمع وقوانينه انتباهاً لتنتهي وحيدة معزولة. هذه هي الصور الرئيسية التي أتذكرها عن الأعمال الفنية الخالدة لثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي والمستمرة الى حد كبير في أعمال الزمن الحالي، وهي لا تختلف كثيراً عن الصور المجتمعية الثابتة والى يومنا هذا في الوعي الشرقي لحد كبير وفي الوعي الغربي وإن كان بشكل يتضاءل ويتغير بسرعة كبيرة.
مسؤولية لم شمل الأسرة، الإبقاء على سلامتها ككينونة هي مسؤولية الزوجة/الأم التي يجب أن تضحي بكل ما تملك، ما يشمل كرامتها، فرديتها، رغباتها ومشاعرها، من أجل تحقيق الهدف. لا يمكن للمرأة هذه أن تحب غير زوجها، غير ممكن أن «تلعب بذيلها» يومين تنفيساً كما يمكن للرجل، فالمرأة تحمل منطق الشرف، والمرأة تحمل دلائل الفعلة، والمرأة هي العامل الأضعف، مما يحتم عليها إبداء إمتنانها المستمر لوجود رجل في حياتها وإشراع كل أسلحتها حفاظاً على كنزها الثمين هذا.
كم سمعنا هذه الكلمة تتردد في مجتمعاتنا «تريد أن تلعب، إلعب، لكن إبق على أسرتك وأترك أم أولادك في بيتها» وكأن أقصى درجات إبداء الإحترام تتجلى في الإبقاء على «أم الأولاد»، في «إعفاء» المرأة شرور الطلاق و«السماح» لها في البقاء في بيت زوجها. عادات وتقاليد تعلي الرجل، أديان تعطيه القيادة والتبريرات والمساحات الممتدة، فما له لا «يلعب بذيله» ما دامت دنياه كلها مسموحات لا محظورات، وما دام المجتمع يعتـــبره شايل عيبه، حتى أنه اذا ما «لعب بذيله»، فهو رجل شاطر مجرب «فِتِك»، وما دام الدين يفتح له باب ثاني وثالث ورابع، ثم أبواب جانبية لا تعد ولا تحصى؟ سنوات ونحن نضحك على المسرحية الرائعة ذات الرسالة المخزية، سنوات وهذه الرسالة تتعمق بعيداً في النفوس العربية التي، بعد هزائمها المتكررة، لا تجد مجالاً تعلي فيه إنتصاراتها سوى على نسائها، ســـــنوات ونحن نثني على رسالة المسرحية ونسعد بنهايتها، فالرجل عاد، والأسرة سالمة، والزوجة، على علمها بخيانة زوجها، ذهبت للكوافير إقراراً منها بتقصيرها الذي دفع بزوجها، الرجل حبيس غرائزه و»أسير» مسموحات مجتمعه ودينه، لأن ينظر خارج بيته.
كل شيء في النهاية يبدو جميلاً مرتباً متماشياً مع صورة الأسرة السعيدة، عاد الرجل وتزينت المرأة وسعد الأولاد، ويبقى سؤال، لو أن القصة كانت معكوسة، هل كنا لنضحك مع المسرحية؟

اترك تعليقاً