تحميل إغلاق

غفران

غفران

لا أدري إن كان هناك كلام ثمين يقال الآن عن ويلسون مانديلا، ففي الأغلب، كل ما يجب أن يقال قد قيل مسبقاً، وعلى الأغلب كل ما قيل لا يسعف في التعبير ولا في التقدير، أن يستطيع إنسان واحد أن يحدث هذا القدر من التغيير ليس فقط في مساحة جغرافية ولكن كذلك في مساحة عقلية، وليس فقط في محيط منشئه ولكن كذلك في محيط البشرية ككل، ليس هذا إنسانا يمكن وداعه بمقال، ليس هو رجلا نعدد مناقبه ومزاياه، ففي الأغلب، ما كان ليعجبه ذلك، ولكن هل من منفذ آخر ننفذ فيه لذكراه؟ لربما الحديث عن إنسانيته أو تحديه لبشريته هو الأوقع في مناسبة الفراق.

ومانديلا مثله مثل غيره من البشر، عمل فأخطأ وأصاب، ولكنه كان يصحح طريقه على الدوام نحو المزيد من الحرية والإنسانية والمساواة. رجل بدأ حياته مؤمناً بالكفاح المسلح، ولم يلبث أن ترك هذا الطريق الى الكفاح المسالم، ليهجره سريعاً الى درجة أعلى وأسمى من الكفاح المتسامح، المتعالي على كل الجروح، المتسامي فوق كل ندبات الألم والعذاب والحرمان. قد تكون هذه الذكرى هي الأوقع اليوم، في زمن يعج بالأحقاد والكراهية والضغائن، وما فرغ أي زمن بشري منها كلها. ومانديلا ابن ماضيه وصانع مستقبله، إلا أنه انتهج منهجاً جديداً، لا ينتمي إلى ماضيه ولم يتنازل لمستقبله، اختار أن يتسامح ويسامح، اختار السلام، ليس في الحياة السياسية فقط ولكن في دخيلة نفسه، فغسلها من الكراهية ونقّاها من الضغائن، فكان أن حقق أصعب إنجاز: نفساً صافية رائقة لا تحمل الكراهية حتى لجلاديها.

سبعة وعشرون سنة في السجن، يخرج بعدها متسامحاً مع سجانيه، هذا، يبدو لي، هدفاً إنسانياً يستحق السعي والاجتهاد، فإن لم نتعلم شيئاً من سيرة مانديلا، إن لم نستوعب الإصرار والكفاح وتقديس الحرية والمساواة وتكريس الحياة للمبدأ وللنضال الحر، إن لم نفهم الحنين الجارف للعيش الكريم والتساوي المجتمعي والكرامة المواطنية، فلربما استطعنا أن نتلمس على الأقل هذا التسامح الذي لا يمكن تعديه أو تجاهله، لربما تعلمنا شيئاً عن النفس البشرية، أنها يمكن أن تكون أعظم، أنها يمكن أن تأتي بالمعجزات، أنها يمكن أن تصل إلى مصاف الملائكة، فتغفر لمن حبسها وتحترم من احتقرها وتعامل بالمساواة من تعنصر ضدها وأذلها، وقتها فقط تصبح هذه النفس البشرية حقيقية، لها وجود وأثر ستتوارثه الأجيال ليس في قصصها فقط، ولكن في جيناتها كذلك، فلابد لمثل هذا التسامي أن يؤثر فينا جينياً بشكل أو بآخر، أتمنى أن يؤثر فينا إن كان لنا أن نستمر لفترة أطول على هذه الأرض.

لست شخصياً من الكارهين أصحاب الضغائن، فيجب أن يأتي أحدهم كبيرة الكبائر ليثير غضبتي ويفقدني كل تسامحي، ولكنني بكل تأكيد ما كنت لأسامح من قذف بي في السجن سبعة وعشرين عاماً، أم تراه هو السجن الذي يرقق النفس ويجعلها ترى الوجود من زاوية مختلفة؟ هذا هو الدرس الذي أود تعلمه من مانديلا، كيف أتسامى على الوجع مهما بلغ حجمه فأغفر؟ قد أبدأ بمقارنة وجعي بوجع مانديلا، وعندما يشهق هرم وجعه بجانب ذرة تراب وجعي، عندما يستوعب عقلي هذه المقارنة، سأبدأ لا محالة رحلة التسامح هذه وأغفر لمن لا يُغفَر لهم، وهم أقل قليل، إلا أنهم على قلتهم، هم التحدي الأكبر.

مانديلا ذهب، وبعده الملايين من بشر سيكونون عظماء مختلفين، وبعدهم الأرض برمتها وهي تصطدم بهذه المجرة المتربصة بنا على بعد بلايين السنوات، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة أحياناً وكأنها القدر المتربص يذكرنا بفنائنا وعبثية قدرنا. كلنا وكل ما حولنا يتجه للفناء، ولن يصنع معنى لهذا الظلام سوى نور نفوس قادرة أن تسامح، تسامح حتى القدر.

مانديلا، ارقد بسلام لطالما صارعت من أجله، لا أحد يستحقه مثلك.

اترك تعليقاً