تحميل إغلاق

عسل

المدرسة هي مصدر العلوم، يستقي منها الطلبة مواد تقنية، ربما فنية، ربما فلسفية، ولكن يصعب على المدرسة أن تقدم مادة عقائدية بشكل موضوعي تام من دون أن تتسبب في فرقة في الرأي، ذلك أن العقيدة ليست مادة موضوعية، ليست قابلة للنقاش، العقيدة حقيقة غير قابلة للجدل عند أصحابها، هي الحق، هي الكمال، وهي كلمة الرب العليا التي لا يعلوها رأي أو كلام.
من هذا المنطلق لا يصبح من الممكن تدريس العقيدة، أي عقيدة، بشكل موضوعي يعتمد القناعة أويرتكز على المنطق. لا يمكن مثلاً أن تدرس رحلة الإسراء والمعراج منطقياً أو تعلم قصة خلق الإله في صورة بشر هو المسيح عقلانياً، هي قصص إيمانية، تحتاج لتصديق مطلق وقناعة تامة بما هو فوق طبيعي. وكون العقيدة مطلقة عند أصحابها، فإنها لا تتسع لتعدد الآراء، لم نسمع مثلاً عن منهج تربية إسلامية يقول «يمكنك أن تدفع الزكاة على المذهب السني أو الخُمس على المذهب الشيعي ان أحببت»، تعليم العقيدة له طريق واحد ومنهجية مطلقة لا تتسع للرأي الآخر.
هنا يأتي سؤال، اذا ما أردت أن تدرس منهج تربية إسلامية عقائدية فقهية، فأي فقه تختار؟ أي تعاليم طائفية ستعرض؟ وإذا تعدينا مشكلة التعدد الطائفي، فهناك مشكلة تعدد الآراء الفقهية في الطائفة الواحدة، ثم هناك المشكلة الأكبر لتعدد الأديان، ثم هناك المشكلة الأوسع لتناقض الموروث الديني مع قناعات أصحابه، يولد الطفل على دين فيكبر ليغير قناعاته، فأي دين يدرس طلاب المدارس، أي عقيدة تفرض عليهم؟ كيف تختار المدرسة «العلمية» في الدولة «المدنية» أسلوباً موضوعياً يقف على مسافة واحدة من الجميع، من دون أن يفرق بين الطلبة على أساس من معتقدهم؟
أعتقد أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تكون على درجة ما من الموضوعية هي حالة تدريس تاريخ الأديان، وليست العقيدة بحد ذاتها. وعلى الرغم من أن التاريخ قصة يصعب بلع فكرة موضوعيتها، إلا أن هضمها أسهل والاختلاف عليها أيسر وأقل عنفاً من الاختلاف العقائدي والفقهي. هذا، وأعتقد أنه يمكن كذلك أن يتم تدريس مقررات حقوق الإنسان والأخلاق في المدرسة والتي يمكن أن تعرج على ذكر مصادر دينية لبعـــــض هذه الأخلاقيات والإنسانيات، ومن هنا، يتعلم الطلبة الأخلاق والمبادئ من دون تحسس من أي تفرقة عقائدية أو الشعور بالغبن من الفرض الديني.
إلا أن هذا لا يعفي الدولة من دورها في توفير التدريس العقائدي للراغبين في ذلك، وعلى غرار ما يحدث في الدول الغربية المدنية، يتوجب على الدولة أن تيسر عملية إنشاء مدارس دينية، في فترة بعد الظهر أو نهاية الأسبوع، تكون متنوعة المذاهب والعقائد حسب توجهات سكان البلد، ليتلقى الصغار علومهم الدينية فيها، إذا رغب أهاليهم في ذلك، كل حسب توجهه من دون أن تفرض عقيدة واحدة على الجميع. هذا ويمكن للدولة أن تراقب العلوم المتلقاة في هذه المدارس، بحيث تحترم الدولة اختلافات هذه المدارس العقائدية والفقهية، ولكن توقفها عن تقديم أي مواد تحريضية أو غيرها، مما يحث على الكراهية ويوعز بالتفرقة. الفكرة بسيطة وسهلة ومطبقة. أتذكر أنا، وإبان إقامتي في الولايات المتحدة، كان الطلبة المسلمون يتوجهون بعد الظهر، مرتين أو ثلاثا أسبوعياً، إلى مدارس عربية إسلامية تعلمهم اللغة العربية والدين، في حين كان الطلبة المسيحيون يحضرون مدارس الأحد في عطلة نهاية الأسبوع، وبذلك كانت المدارس تتجنب أي اختلافات عقائدية بين الطلبة وأي نقاشات عنيفة أو اختلافات جذرية تفرق بين قلوبهم الصغيرة.
ولم يخيب عربنا المسلمون الظن بهم، فقد وقعت الواقعة بعد أن قلت رأيي في مقابلة د. الهتلان، التي ذكرتها في مقال الأسبوع الماضي، ونعى الناعون وبكى البكاؤون مظلومية الدين من المدنسين الصفويين، وتحولت أنا من سيدة تحت عادية في دولة خليجية صغيرة إلى عميلة للاتحاد السوفييتي أو عضو مؤسس في الحراك الماسوني. وكل ذلك في الواقع غير مهم، لا أنا مهمة ولا كلامي مهم ولا ما أراه يغير شيئا من الواقع ولا أراني على أي درجة من الخطورة التي لها أن تهدد «الاستقرار» العربي الإسلامي، لكن المهم في الموضوع هو أن هذا الشعور بالمظلومية والتآمر العالمي، اللذين أفردت لهما مقال الأسبوع الماضي، قد وصل حدوداً مرضية هي التي تهدد، وبشكل حقيقي، استقرار مجتمعاتنا.
كله على القلب أطيب من العسل فداء حرية الكلمة والرأي والتعبير، تلك الحرية التي أنا على استعداد لدفع الغالي والنفيس من أجلها، وهل هناك أغلى من الحرية وأنفس من الإفساح للرأي الآخر. لذا، وتويتر يمطر شتائمه، أقول، برداً وسلاماً، أتفهم الغضب بأنه تعبير عن الخوف من المجهول، أتفهم الهجوم بأنه تعبير عن الخوف من التغيير، أتفهم حق الآخر في رد الفعل وواجبي في تحمله بكل حلم وأدب، ولا منة في ذلك إلا للحرية التي أفسحت لي المجال، كما تفسح لغيري. إنما هي عقلية المظلومية هذه التي أخشاها وأخشى أساها، فمتى نقف على أرجلنا ونتحمل مسؤولية ما يحدث لنا ونواجه واقعنا؟

«لست أدري».٭
٭ قفلة شاعر العرب الرقيق إيليا أبو ماضي في قصيدة «الطلاسم».

اترك تعليقاً