تحميل إغلاق

سُخرة

سُخرة

قبل أكثر من عشرين سنة قرأت كتاب شهلا حائري المعنون «المتعة: الزواج المؤقت عند الشيعة»، لتبدأ معه رحلة طويلة من النزاع الداخــــلي مع كثــير من المفاهيم العامة حول فكرة صيغة الزواج بمجملها تحت العقود الشرعية الحالية. لم يقتصر كتاب حائري على تفكيك فكرة المتعة وطبيعة عقدها، ولكنه تكلم عن العقد الزواجي الشرعي العام، ما له وما عليه، وما يعنيه هذا العقد، الذي هو عقد بكل ما تحمله الكلمة من معنى اقتصادي لها، للمرأة تحديداً، من حيث حقوقها وواجباتها وكذلك قيمتها الإنسانية في الحياة.
تسعد النساء عموماً بما تتحصل عليه من «حقوق» عند توقيع عقدها الشرعي بتركيبته الحالية (التوقيع الشخصي عند الشيعة، والتوكيل لوصي عند السنة). فللمرأة في العقد الشرعي مهر، ولها من الحقوق كل ما تطالب به منصوصاً في العقد دون تضارب مع القواعد الدينية (عند الشيعة لا يمكنها أن تمنع الرجل حقاً من حقوقه نصاً في العقد على سبيل المثال)، إلا أن المرأة في الواقع لا تعرف غالباً وبوضوح ما يُلزمها به هذا العقد، هي لا تفقه تحديداً ما تسلم به هي بكامل رضاها وقواها العقلية ولآخر لحظة في حياتها، ولربما فيما بعد موتها، لشريكها الذي يعد الطرف الأقوى وكأنه الطرف الوحيد في هذا العقد. العقد الشرعي يلزم الرجل بالإنفاق ويلزم المرأة بالطاعة، حتى الجسدية منها التي تعد (أي الطاعة الجسدية) واجبها الأول والأهم والأكبر في هذا العقد، حتى إن -حسب القراءة الدينية- ملائكة الدنيا كلها تجتمع لعناً لها إن هي خالفت هذا البند منه. أي عقد عادل هذا الذي يمنح طرفاً حق الطاعة الكاملة من الطرف الآخر والتحكم الكامل في جسده؟ وماذا بقي من حقوق إن كان لطرف حق الطاعة الكاملة؟ ألا تغني هذه الجزئية عما عداها وتعطي كل الحقوق لطرف دون آخر؟
إن الوصول لهذه الصياغة الشرعية لعقد الزواج لا يمكن أن يتأتى سوى من قراءة ذكورية بحتة لهذه العلاقة الإنسانية ومن طلاقة يد تامة في صياغتها، دون خوف من نقد أو مطالبة بحقوق، فشرع الرجل وصاغ وخطط تمحيصاً وقراءة للنصوص القرآنية ولنصوص السنة النبوية من أسفل عمامته سواء السنية أو الشيعية، ليخرج بتفسير وقراءة تبيح صنع هذا العقد الذي يأخذ كل شيء من المرأة ويعطي كل شيء للرجل، كل ذلك في مقابل إطعام المرأة وكسوتها، أي سُخرة أوضح هي من ذلك؟
تأتي بعد ذلك قوانين الأحوال الشخصية التفصيلية اليوم لتمعن في سلب المرأة حقوقها في هذه العلاقة، فهي تملك الدخول فيها (عند الشيعة، أما عند السنة فأمرها في يد وليها) ولا تملك الخروج منها إلا تحت أعسر الظروف لتتحول إلى أسيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في هذه العلاقة. هذا العقد يعطي أطفالها للرجل ليحملوا اسمه ويتبعوا دينه ويبقوا مولى عليهم منه إلى أن يبلغوا سن الرشد هذا بالنسبة للذكر، أما الأنثى، فتبقى تحت الوصاية طول العمر طالما لم تتزوج. هذا العقد يعطي جسدها للرجل حقاً مطلقاً لا تحاسبها عليه القوانين الأرضية فقط، بل تلعنها -إن هي فرضت إرادتها على جسدها- الملائكة السماوية كذلك. هذا العقد لا يعطيها حق العلاقة الجسدية (عند السُنة لربما لها حق مستوجب مرة في السَّنة، وعند الشيعة لربما الشرط غير موجود)، وهو لا يعطيها أي قوة قانونية على أبنائها ولا يبيح لها الخروج من العقد مطلقاً سوى بإرادة زوجها، وهي النقطة التي تطورت مؤخراً في بعض الدول الإسلامية لتقر قانوناً يبيح للمرأة افتداء نفسها بدفع مبلغ تخلع به نفسها من هذا العقد وتشتري به جسدها من مالكه.
هل وصل معنى المهر الآن؟ هل اتضحت الغاية منه حسب الصياغة العقدية الحالية؟ إنه مبلغ ضئيل جداً لهذه الصفقة، صفقة العمر التي تبيع من خلالها المرأة، أو يبيع من خلاله الوصي عليها، نفسها وإلى الأبد لرجل ما إن تدخل هي في عصمته حتى تتحول إلى مملوكة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى تفقد فعلياً كل حقوقها، وذلك من خلال كل التنصيص التفصيلي لحقوق الرجل وقدراته، وكذلك بالوجود المتضمن لكلمة قصيرة وصغيرة على اللسان، كبيرة وثقيلة في قضايا الطلاق وفي المفهوم الاجتماعي والتقييم العرفي: الطاعة التامة. إذا كان أحد شروط العقد هو الطاعة التامة، ماذا بقي للمرأة من حقوق بعدها؟
قوانين الأحوال الشخصية الشرعية اليوم تفصل تفصيلاً دقيقاً يدخل في أخص خصوصياً العلاقة حتى الحساس منها بين الزوجين بطريقة فجة ومتطاولة على جسد المرأة تحديداً ومفصلة لكل تفصيل بالعلاقة مما يحولها فعلاً إلى صفقة عن علاقة إنسانية، الأمثلة كثيرة وآخرها قانون الأحوال الجعفري الذي أقر في الكويت. لقد أوصى النبي الكريم بتطليق امرأة لأنها لم ترغب في زوجها مظهرياً، وأعطى المرأة شيئاً من السلطة غير المسبوقة، في دلالة على أن التوجه يفترض أن يذهب في اتجاه مزيد من الحقوق والمساواة لا العكس. وعليه، أليس هذا التوجه النبوي العام مدعاة لتطوير الصياغة العقدية للزواج اقتداء بفكرة النبي التي تشير إلى أن المرأة طرف فاعل في العقد حتى ولو من مدخل رغبتها الشخصية غير المبررة؟ متى تعقدت وتطرفت عقود الزواج الشرعية بهذه الصورة؟ ومتى سنأخذ الخطوة الإنسانية المستحقة تجاه العقود المدنية التي تجعل الطرفين متساويين تماماً في دخولهما للعقد، حقوقهما فيه، واختيارهما الخروج منه؟

اترك تعليقاً