تحميل إغلاق

سلطانة

سلطانة

كان يا ما كان، كان هناك سلطان، أحب هذا السلطان فتاة فقيرة وأصر على الزواج منها، إلا أن أخواته الشريرات حقدن على جمالها وأصررن على التفريق بينها وبين أخيهن. في يوم الزواج المحدد، أطعمت الأخوات الفتاة الفقيرة الجميلة طعاماً ثقيلاً مسمماً حتى تقع فريسة المرض ويصيبها تقزز زوجها السلطان من أصوات بطنها المريض، إلا أن الجنية الطيبة التي كانت تراقب الأحداث، حولت كل ما في بطن الفتاة الفقيرة إلى جواهر ولآلئ، استغرب السلطان خروجها من بطن عروسه، فجمعها في «غترة» فرشها أسفل مريضته الرقيقة. من بعدها، ازداد حب السلطان لعروسه الجميلة، وعاش معها قصة حب لا تنتهي إلى الأبد.

قضينا ليلتنا في ردهات مستشفى مبارك، وجوه شاحبة مرهقة، أرجل تتراكض تربض فوقها أجساد ورؤوس غائبة إلا عن آلامها. اكتظ المستشفى وكأن المرض، كما النزهات والتسوق، ينتظر نهاية الأسبوع ليحل على الناس. أنظر أنا بشيء من التوهان لقرية صغيرة كاملة تقف خارج أسوار المستشفى في الهواء الطلق اللطيف، أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد، إخوة وأبناء إخوة، أصدقاء ومحبون، جمع غفير من الناس تكوم على باب المستشفى في وداع سلطانة.

أتت سلطانة إلى الكويت في سن صغيرة، فتاة ساذجة طيبة ولكنها آية في الجمال، تزوجت وأنجبت من الأبناء أحد عشر ابناً وابنة، والدتي إحداهن. لم تكن جدتي تتحدث العربية إلا بتكسير محبب، فكانت تخلط أسماء الإشارة صانعة من الرجال نساءً ومن النساء رجالا في حركة عفوية طالما اعتبرتها موقفا نسويا ثائرا منها وإن كان على غير علمها أو مقصدها. أحبت جدتي الجميع وأحبها الجميع، كان قلبها متسعاً باتساع أحزانها، تلك الأحزان التي حكت لي عنها بعد أن أصبحت أنا امرأة بالغة يمكن لها أن تستمع لأحاديث النساء. حكت جدتي عن حب حياتها الوحيد، عن جدي رحمه الله، عن قوته ووسامته وعن زيجاته، ساعة تسامحه في أحاديثها وساعة تنعى سنواتها معه، وفي أحايين أخرى كانت تصب جام غضبها الرحيم عليه. جدتي عاشت حباً كثيراً كبيراً في أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد وأحفاد أحفاد، كلهم عرفوها وعرفتهم، أحبوها وأحبتهم، إلا أن هذا البحر الهائج المائج من الحب لم يستطع أن يدمل جراحها في يوم.

وقفت أنا فوق رأسها الأبيض أتذكر حكاياتها الكثيرة الغريبة التي كنت أنام على سحرها وأنا طفلة صغيرة. كانت جدتي تبدو وقتها وكأنها سيدة من غير الزمان والمكان، امرأة من عالم ساحر غريب أتى بها القدر إلى غرفتي لتحكي لي عن سلطان وسلطانة من عالم قديم مهيب. لمست شعيراتها الحنونات التي طالما طيبتها هي بأروع روائح المسك والعنبر. كانت تلك هي اللحظات الأخيرة، تشهق بصعوبة وتزفر بقوة، وقد غمضت العينين الجميلتين وازرقت الأطراف وغاص الصدر الحنون أسفل أنابيب بلاستكية وأسلاك تمددت إلى أجهزة رنانة، تعدّ دقات قلبها، تحصي عليها أنفاسها، تخبرنا أن النهاية تقترب ببطء وإصرار. تحلقت البنات حول أمهن، فجأة انقلبت والدتي طفلة صغيرة، تعلقت يداها بالخرقة الزرقاء على جسد أمها، تناديها ببطء وحرقة وكأن الكلمات تخرج من عمق لم أعرف بوجوده في جسدها. اليتم، إنه لحظة فقد الأم، يعود بالإنسان لطفولته، لمخاوفه من الظلام، لرعبه من دنيا المجهول. رأيت كل ذلك يرتسم على محيا والدتي، أرعبني رعبها، وأغرقني حزنها. التففت حول السرير وتمسكت أنا كذلك بطرف ثوب أمي. في لحظة تبين قطار الحياة الغريب هذا، أنا أتعلق بثوب أمي، أمي تتعلق بثوب جدتي، جدتي تتعلق بأسلاك جهاز بارد غريب لم يكن أحد منا يملك أن ينقذها منه. أبعدونا عندما توقف القلب، وفي مكان رؤوسنا على صدرها وضعوا جهازاً ضخماً أراه قد كسر ضلعاً أو ضلعين في صدرها الرقيق ليعيد لها نبض قلبها. كان القدر قد سبق. توقفت أنفاس جدتي فحبست أمي أنفاسها، أمي وخالتي وأخوالي، وأبناؤهم وبناتهم، قبيلة كاملة حبست أنفساها في لحظة، ليفسحوا جميعاً الطريق لمرور السلطانة.

كان يا ما كان، كان هناك سلطان، وكانت له سلطانة رائعة الجمال، أحبها ودللها وعذبها بغيرتها، أعطاها أبناء وأحفادا، وأعطته عمرها وقلبها. عاشا حياة طويلة مديدة، ثم رحل السلطان، ثم رحلت السلطانة، وبقيت أنا في وسط ردهة مكتظة بالموت والأسى أرقب أمي وهي تتحول إلى يتيمة، خطوة بخطوة، دمعة بدمعة، آهة بآهة. ضجت صرخة حبستها في قلبي: أمي، لا تحزني، ليس من حقك أن تحزني، أن تخافي، أن تتألمي، أنت أمي والأم لا تخاف ولا تبكي، لكن هذه السيدة الجميلة التي كانت هي أمي أصبحت طفلة صغيرة تيتمت على أعتاب مستشفى مبارك، وكنت أنا أمها.

رحم الله السلطانة.

اترك تعليقاً