تحميل إغلاق

ثائرات

ثائرات

في صف مقرر الدراسات النسوية الجندرية جلست أمامي الشابات اليافعات بحماسة واندفاع ذكراني بأيام الصبا، حين كنت أصرخ أفكاري لا أنطقها، وحين كنت أعتقد أن الشجاعة هي أن أقول كل ما يحضرني ولا أفلتره. جميلات هن هؤلاء الشابات، منهن المتزوجة ومنهن المخطوبة ومنهن من أصبحت أماً ومنهن من تعلن بفخر عزوفها عن أي زواج، منهن المحجبة ومنهن القليلات غير المحجبات ومنهن مرتديات العباءة الخليجية ساحرة الرومانسية. شابات رائعات تحمل كل منهن سلة من عاداتها وتقاليدها ومعتقدها وظروفها الاجتماعية وخلفيتها العرقية، تدخل كل منهن الصف، تفتح السلة، وتتبادل وزميلاتها الحوار والنقاش على أساس بضاعتها الثمينة التي أتت للدنيا لتجد نفسها محملة بها. كل منهن زهرة يافعة، رشاش محشو ذخيرة، عقل جبار، كل منهن طاقة وانطلاق ومشاعر وأحاسيس، كل منهن مستقبل ممدود وأجيال قادمة وحيوات متفرقة ستبني هذه الدنيا في القادم من السنوات.
في معظم أوقات المحاضرة، وبعد الشرح والتفسير، يأتي وقت صمتي، لتتبادل الشابات الحوار، يعلو الصوت أحياناً حتى اكتسبنا سمعة مزعجة في مبنى الدراسة، تبادلن الأفكار وتنازعن الاتفاق عليها لا الاختلاف حولها، تجدهن يصرخ بعضهن على بعض فيما هن يرددن الفكرة نفسها في الواقع، أنظر إليهن بلا شبع من هذه الحيوية، لو أنهن يعلمن كم يعدن إلي من روحي وحماستي، تلك الحماسة التي ما عاد لدي الكثير من الطاقة لأطلقها، حماسة تخرج هادئة متوارية خلف سنوات عمري.. يعتقد الآخرون هدوءها صبراً ووقاراً. أحياناً يتنازعن الأفكار بينهن وبين أنفسهن: لماذا يبقى وضع المرأة في المجتمع على ما هو عليه؟ ما دور الدين؟ ما دور العادات والتقاليد؟ ما الفرق بينهما؟ فتجد هذه تحاول عرض قراءة تقدمية جداً، ليت عتاة الفلسفة الدينية عندنا اليوم يستمعون إليها وهي توفق بين معتقدها وإيمانياتها وأفكارها النسوية القوية، في حين تنبز تلك بالرفض من تحت ضروسها بطريقة تثير ضحكات كل زميلاتها. تسحب كل منهن بدلوها من حياتها اليومية الشخصية، تحكي القصة، تحللها، تفسرها، تتعارك معها أمامنا بنفسها، ثم تصل لتسوية تمكنها من الاستمرار، كل ذلك وحدها، ببعض المساعدة من زميلاتها، ولكن الوصول يتحقق بمعيتها وحدها. أحياناً تقفز إحداهن من كرسيها، فنهب جميعاً فزعين، تقول الفكرة الجبارة، تهدأ وتعود للجلوس، فتنفتح كل الآفاق وتفرش كل الطرق، ليبدو المستقبل بلا حدود والطريق بلاعوائق، وكيف يمكن للعوائق أن تكون، ومن تمشي على الطريق، هن هؤلاء الصغيرات الجبارات؟
إلا أن هناك توقاً يجمعهن كلهن على اختلاف مشاربهن، توقاً جباراً حارقاً يخلق من كل منهن كتلة مشتعلة، كلهن تواقات للمسك بزمام حيوات أنفسهن، كلهن يردن أن يقدن، أن يحيين بلا نفاق، بلا تمثيل، بحقيقتهن الكاملة الشاملة، حتى هذه الجميلة القادمة من أسرة شديدة المحافظة، في شموخ حكاياها الكثير لأتعلمه أنا، رغم أنني أسبقها الكثير من السنوات والتجارب. حين تحكي ينير وجهها بإنجازات هي علامات فارقة في حياتها حتى وإن لم تكن بذلك الحجم في السردية العامة. كلما حكت وددت لو ضممتها ليتسرب لي شيء من إصرارها، لتتسرب لي ضحكتها اللامعة وإيمانها بأنها ستغير العالم. في الغالب أنا لا أرد، لا أعلق كثيراً، أتركهن يكتشفن أنفسهن، أو يضعين في دهاليزها، وهل أجمل من الوصول بعد ضياع؟ المهم أن توقهن هذا خلق منهن نسويات ناقدات صارمات، هن لا يعرفن حجم قوتهن، هن يعتقدن أنهن مقيدات، هن يعتقدن أنهن متنازلات عن الكثير، هن يميزن هذا الصراع النفسي الداخلي في كل منهن، بين ما تريد وما ينبغي عليها أن تفعل، بين ما تؤمن وما تؤمن، بين شعورها بكيانها الإنساني التام وإلحاح خطاب مجتمعي عليها بنقصها باستمرار.
فكرت أن أخبرهن، ثم عزفت عن الفكرة، لا بد لهن من أن يكتشفن قوتهن بأنفسهن، وإلا ما معنى هذه الرحلة في الحياة دون الشك والصراع مع النفس؟ قررت أن أدعهن يتضورن جوعاً لشيء يمتلكنه، سأقف أتفرج عليهن، بكل حبي وبكل مشاعري وبكل تعاطفي، لكنني سأقف أتفرج عليهن وهن يكتشفن أن الغذاء الذي يحتجن هو بداخلهن أصلاً، أن كل ما يسعين إليه هو لديهن من البداية. وبعد أن تمر السنوات، إن أحياني الخالق، سأخبرهن أنني لطالما كنت أعرف الإجابة.. أنني كنت أرى رؤى البصيرة، هذه القوة الساحرة المتدفقة في أرواحهن التي ستأخذ كلاً منهن بإرادتها إلى طريقها في الحياة.
انتهى الفصل الصيفي، لن تجتمع هذه المجموعة مجدداً على كراسي غرفة واحدة، لكنهن انطبعن في قلبي، حركن مشاعر أمومتي وغضبات نسويتي وثورات شبابي وحماسات قلبي التي كانت والتي هدأتها المعرفة والتجربة وشيء من حكمة العمر. أهدينني في نهاية الفصل تمثالاً صغيراً «للرجل المفكر» لنحاتي المفضل أوغست رودان، ففرحت كما لم أفرح بشيء من قبل. كتبن على البطاقة: «شكراً لك، لا نعرف ما فعلت لتستحقي ذلك»، في إشارة إلى تحملي لفصلهن الدراسي الصاخب. لا تعرف الصغيرات أنه كرم الأقدار، أنها رحمة الدنيا أن دَفَعَتهن بالجملة في حياتي. سأبقى على غير علمهن أراقبهن من بعيد، أحبهن من بعيد وأصلي لهن من بعيد.

اترك تعليقاً