تحميل إغلاق

بالون

قلت لها لا بد من إعادة التفسير والفهم، إذ لا يمكن أن يكون نصيب الرجل في الجنة هو الآلاف من الحور العين فائقات الجمال واللواتي يعدن عذراوات، المرة بعد المرة، إرضاء لرغبة صاحب النصيب (وهي فكرة، أي رغبة الرجل في العذراء، بحد ذاتها غير منطقية أو مفهومة علمياً) ثم يكون على المرأة أن تشهد كل ذلك وتعايشه، في حين أن نصيب المرأة المسلمة في الجنة هو تحديداً زوجها الذي توفيت وهي على ذمته. هل من العدل أن يكون نصيب المرأة، حسب ما تعتقدين- سألتها- أن تعاني في هذه الحياة الدنيا ثم فيما بعدها من مشاعر الغيرة والألم ثم تتحمل مشاركة أخريات لها في حبيبها، هذا على اعتبار أنها تحب زوجها الذي توفاه الله وهي على ذمته؟ ردت عليّ بكل ثقة.. أن كل ذلك سيختفي في الجنة، كل مشاعر الغيرة والألم ستختفي، ولن تبقى سوى المتع الخالصة. «كل مشاعر الألم ستنتهي؟» سألتها، فأكدت لي هي بكل سعادة وأمل أن «نعم»، لا ألم ولا حرمان ولا غيرة. فأجبت بلا وعي وقد قبض الألم صدري، لكنني لا أريدها أن تنتهي، لا أريد أن أنسى آلامي.
تضاحكنا طبعاً وهي تسخر من ثقتي الكبيرة: «أنت ضامنة الجنة أصلاً حتى تتشرطي بما تريدين؟» قلت لها: «على نياتكم ترزقون». إلا أن فكرة انتهاء المشاعر، كفكرة فلسفية خالصة، أرقتني، حيث لا أتصور فقدان مشاعر الألم أو القلق أو تأنيب الضمير أو الغيرة أو الحرمان، نعم حتى الحرمان. أحد أهم مصادر هويتي الشخصية هي مشاعري: نوعيتها، قوتها، درجة ترددها على روحي، كل تلك تعرفني كإنسانة أمام نفسي، كلها تجعلني أشعر بأنني نسخة مميزة، بآلامها وأحزانها ونقاط ضعفها، لا نسخة مكررة عن غيري من البشر. لربما أحد أهم ما يشكل هوياتنا البشرية هو تلك المشاعر، لا لغيابها عند بقية الكائنات، فهي موجودة وبقوة عند كل الكائنات الحية، ولكن لقدرة الإنسان المميزة في التعبير عنها ولتعاظم تأثيرها في قراراته وفي مسيرة حياته.

للباحثين والنقاد الإسلاميين المعاصرين نظريات عظيمة حول مفاهيم الجنة والنار والشيطان والخير والشر والثواب والعقاب وغيرها من المفاهيم الفلسفية العميقة.

أحياناً كثيرة أتمنى نسيان ألم مستقر عميقاً في القلب أو التخلص من تأنيب واخز كأنه شوكة في البلعوم، أو الراحة من شوق لشيء لا يمكنني تحقيقه أو التحصل عليه، إلا أنني لا أريد أن أنسى موضع ألمي أو مصدر تأنيبي أو هدف شوقي ورغبتي، لا أريد أن أنسى كيف شعرت وقتها، لا أريد أن أخسر هذه المشاعر تماماً فلا أستطيعها مجدداً، لا أريد أن أكون سعيدة بشكل تصاعدي، كأنني بالون يكاد ينفجر من فرحه الخالي مما يتضاد معه ويُقارن به. كيف سأعرف الفرح إن لم أعرف الحزن؟ كيف سأتذوق الراحة إن لم يكن هناك شيء من الشقاء؟
كل ما تكتبه الدنيا على جسدي من خطوط وتجاعيد وجروح وآثار هو تاريخي المادي في هذه الحياة، وكل ما تكتبه على روحي من جروح وآلام وما تعتصره منها من دموع وما تسلبه منها من راحة هو تاريخي المعنوي والروحاني في الحياة ذاتها، هذه الآثار هي أنا، ولا شيء غيرها يصنعني، لا وجود لي سواها، فكيف تريحني فكرة فقدانها؟ كيف أتطلع لغياب آثار الدنيا عن جسدي وآثار الحياة بتجاربها عن روحي؟ كيف أتمنى فقدان التيرمومتر المشاعري الذي يقيس نفسي وروحي وجسدي ووجودي وضميري وأخلاقي؟ كيف نرحب بهذا الفقد، سألت محدثتي، التي كانت قد قامت وتركتني منذ زمن، بعد أن ملتني وملت تفلسفي الذي لا معنى مباشراً له في حياتها. قامت وتركتني لأنها ملت، شعور محفز هو الملل حين يصيبك، هي روحك وهو جسدك يدفعانك لشيء جديد، لخطوة قادمة، فهل تضحي بهذا الشعور؟
لقد تعمقت أفكار الإنسان عبر الزمن، فما عاد راغباً في مجرد المتع الحسية البسيطة، وما عاد متمنياً مجرد التخلص من مشاعره المؤلمة، لقد تطورت رغبات الإنسان لأبعد من مأكل ومشرب ورغبة جسد، وتألقت أمنياته لأبعد من مجرد تمني مشاعر الفرح والسعادة. لقد تطور الكائن الإنساني بشكل كبير، ومعه لا بد أن يتطور الفهم للنص الديني وأن تتطور تفسيراته حتى تواكب التعقيدات الخارقة للنفس الإنسانية بكل مشاعرها ورغباتها واحتياجاتها.
للباحثين والنقاد الإسلاميين المعاصرين نظريات عظيمة حول مفاهيم الجنة والنار والشيطان والخير والشر والثواب والعقاب وغيرها من المفاهيم الفلسفية العميقة. نحتاج أن نفتح لها الباب، أن نتداولها ونفكر فيها بلا خوف، أن نستمتع بتعقيداتها الموازية لتعقيدات أنفسنا البشرية. نحتاج أن نسمع شيئاً جديداً حتى نفهم أنفسنا بشكل أفضل في هذه الحياة، ولربما فيما بعد هذه الحياة.

اترك تعليقاً