تحميل إغلاق

المشدّ الحديدي

المشدّ الحديدي

تتحدث إحدى حلقات برنامج Explained، الذي أتيت على الحديث عنه مسبقاً في إحدى المقالات في «القدس العربي»، حول تاريخ الملبس الذي انتقل من تلك الثقيلة الرسمية المعقدة إلى ما سمّاه البرنامج athleisure أو ملابس الرياضة الترفيهية، أي التي تلبس في كل أوقات اليوم، وتقريباً لكل المناسبات وليس لأوقات الرياضة فقط. بالطبع، الملابس دلالة طبقية، نوعية الملبس وقماشته وتصميمه كلها إشارات إلى الطبقة الاجتماعية التي يأتي منها الفرد، لذا، فإن فكرة هذا النوع الرياضي من الملابس أتت منذ قديم الزمن مع ظهور فكرة freetime أو وقت الفراغ الذي تَوَفر للأفراد بسبب من التطور الصناعي الذي استعاض بالآلة عن الإنسان، مما حرر لهذا الإنسان الكثير من الوقت، خصوصاً لهؤلاء المنتمين للطبقة الوسطى الذين كانوا معجونين بالعمل قبل هذه الثورة. تكلم البرنامج عن طبيعة الملبس النسائي وكيف أنه كان أحد أهم المعيقات للنساء، وأن تحدي هؤلاء للوضع وسعيهن للدفع بالملبس العملي ليكون ملبسهن اليومي قد غير من حياتهن بشكل واسع وعميق. أعطى البرنامج مثالاً على تنورة رياضة التنس التي بدأت بتنورة طويلة معيقة لتتطور إلى التنورة القصيرة التي كانت مصدر إلهام لصناعة كثير من الأزياء اللاحقة، وذلك بحلول العشرينيات من القرن الماضي.
من هنا أصبحت الملابس المصنوعة من أجل الرياضة سابقاً هي ملابس كل يوم، التي يذهب مرتدوها بها إلى العمل والزيارة، وأحياناً حتى إلى المناسبات الأكثر رسمية. بالطبع، كان تغيير نوعية الملبس صعب القبول، إلا أنه كان أكثر صعوبة على النساء كما يشير البرنامج، كما أن هذا التغيير احتاج إلى كثير من الوقت، حيث ساعدت صناعة السينما والصحافة والتلفزيون على التسويق لهذا النوع من الملبس وزرع قبوله، إلا أن الفكرة الرئيسية التي علقت في ذهني بعد مشاهدة الحلقة هي فكرة إعاقة الملبس للإنسان وكيف أن إحدى خطوات تحرره الاجتماعي تحققت بتحريره من الملبس الثقيل المعيق الرسمي. ينتهي البرنامج بالإشارة إلى أن الناس على مدى قرون، ولا يزالون، في حرب لإحقاق حقهم في التحرك بحرية وراحة ولإظهار أجسادهم بالطريقة التي يرغبون بها، حيث يبقى الملبس ساحة حرب يكفي النظر في الأخبار حول العالم لاكتشاف ضراوتها.
تدفع مادة الحلقة إلى التفكر في معنى «القيود القماشية» التي نفرضها كبشر على أنفسنا أو على بعضنا بعضاً وكيف أنها في الواقع أحد مصادر التحكم في الإنسان وتحجيمه. بالطبع لا أدل على هذه الفكرة من النظر في الملبس النسائي في كل المجتمعات الإنسانية، الذي عادة ما يتم تصميمه ليس فقط لإظهار الجمال والأنوثة اللذين يفترض بهما أن يحددا دور المرأة الاجتماعي و«مهمتها البشرية» في الحياة، إنما هو تصميم ذو دلالات أبعد من ذلك بكثافته وثقل أقمشته وتعقيده، ليعمل فعلياً على إعاقة حركة المرأة وتحجيم تحركها. في الغرب، كان لبس المشد الصدري تقليداً لا يمكن النزوح عنه، حيث إن إحدى أهم علامات جمال المرأة كان صغر خصرها الذي يتحقق بشد آلة التعذيب هذه حول جسدها معظم ساعات اليوم، ما كان يتسبب في حالات اختناق وإغماء وكسر للقفص الصدري، بل وإجهاض لهؤلاء النساء. كذلك هو حجم تنانير الفساتين الغربية وكمية الأقمشة، بل والحديد والأسلاك الكامنة تحتها، والتي كانت كلها مصادر إعاقة حقيقية للمرأة، حيث صعّب هذا الملبس الثقيل المعقد عليها كل تحركاتها، حتى من حيث قطعها البسيط للشارع أو صعودها عربة التنقل. في المجتمعات الشرق آسيوية كان الكيمونو بثقله وتعقيده والتفافه الشديد حول الجسد مصدر تقييد حركة فعلي، فلا تستطيع المرأة فتح خطوتها بسبب التفافه الخانق حول الجسد، كما أن عملية تضميد القدمين لإبقائهما في حجم صغير هي أحد أشد الإجراءات الملبسية تعذيباً للنساء في العالم.
لا يختلف عالمنا العربي في ذلك عن بقية العوالم؛ فالملبس الواسع ذو الطبقات المتعددة الذي يفترض فيه أن يكون مصدر حشمة، يبدو أنه في الواقع مصدر تحجيم وتقييد لتحرك المرأة، هذا الملبس لا يرمي «لستر» المرأة بقدر ما يرمي لتقييدها وتقليل حركتها فعلياً. فالعباءة مثلاً، على رومانسية شكلها، صعبة التحكم من حيث تثبيتها على الجسد، كما أنها مصدر لرفع درجة حرارة الجسد خصوصاً في أصيافنا القائظة، ما يجعل العديد من لابسات العباءة يفضلن البقاء في المساحات الخاصة المستورة ويقيدن حركتهن بأنفسهن اتقاء لمصاعب ارتداء هذه الملابس والتنزه بها في العلن. الفكرة واضحة المعنى وإن كانت خفية المواجهة: ليس المقصود من الملبس الستر بمعناه الفعلي، ولكن المقصود التحجيم بكل ما للكلمة من معنى. فحين تضطر المرأة لارتداء ملبس غامق ذي طبقات متعددة وبطول ممتد في الشارع، أو حين تدفع لارتداء ملبس السباحة الإسلامي الثقيل على سبيل المثال الذي يزداد وزنه وترتفع حرارته في المياه، فإن هذه الألبسة تدفع بها لتفضيل العزلة والبقاء خارج حيز التواصل الاجتماعي عن تفعيله والاضطرار لتحمل كل هذه المعيقات الملبسية.
بكل تأكيد، حرية اختيار المرأة لهذه الأنواع من الملابس هي غير محل نقاش، فليس موضوع المقال منع أو إلغاء هذه النوعية من الملابس، إنما محاولة إلقاء نظرة موضوعية على المغزى الحقيقي لنوعية الملبس النسائي الذي ينطوي في نظري على محاولة تقييد فعلية جسدية، بكل ما للكلمة من معنى، للمرأة. لربما يمكن تطوير هذه الملابس من حيث التصميم ونوعية الأقمشة، مع المحافظة على فكرة الحشمة والمحافظة المجتمعية، وذلك مثلاً من خلال تصميم ملبس السباحة الإسلامي بألوان أبرد وأقمشة أقل ثقلاً وتحويل العباءة من حريريتها السوداء الطويلة كثيفة القماش إلى لون ونوعية قماش وطول أكثر مناسبة لحياة المرأة المعاصرة.
لقد كانت أول ثورة ملبسية للنساء الغربيات مثلاً هو تقليل طول تنانيرهن الضخمة التي كانت تسحب خلفهن كجزء من فساتينهن الثقيلة المعقدة، فقصرت هذه التنانير وتم لبس بنطالات محتشمة أسفلها، ما أحدث ثورة في الحركة الجسدية النسائية في ذلك الوقت تعززت طبعاً بإلغاء المشد الحديدي الرهيب.
اليوم لم يعد لهذه المشدات، بكل صورها ونوعياتها المجتمعية المختلفة، مكان في حيواتنا النسائية. أن نحرر أنفسنا ملبسياً، نحرر أنفسنا حركياً وعملياً وحياتياً.

اترك تعليقاً