تحميل إغلاق

السمكة الغبية

السمكة الغبية

“لا أستطيع أن أتنفس” هي اليوم عبارة أيقونية، أربع كلمات تنحبس داخلها كل عذابات ومظالم البشر، تتجلى فيها كل العنصريات والتمييزات والانحرافات التي تَعِز الهواء، أحياناً حرفياً وكثيراً مجازياً، عن البشر المظلومين المقهورين. هذه اللحظات الأخيرة، قبل أن يقضي فلويد أسفل ركبة الشرطي، قبل أن تفيض روح حسين بركات، الناشط الإنساني البحريني، في السجن بعد أن عزت عليه الأنفاس بسبب مضاعفات كورونا، في لحظة الوعي الأخيرة حين قال كل منهما “سأموت، لا أستطيع أن أتنفس”، ترى كيف كان الشعور النهائي وحتى الهواء المشاع، هذه الهبة المجانية المتاحة للجميع، هذا الامتياز المستحق تلقائياً والذي نمارسه طبيعياً بسبب كوننا كائنات حية، قد سلبه آخرون بسبب لون أو عرق أو توجه أيديولوجي أو رأي مختلف أو أي تصنيف تمييزي آخر؟ ما كانت الفكرة الأخيرة في اللحظة الأخيرة، قبل أن يقضي الملايين والملايين  من بني جنسنا تحت الركب الحاقدة، وقد تقوضت الرئتين وعز فعل الشهيق الطبيعي وغامت الدنيا ليكون آخر من يراه المختنق، القابع أسفل ركبة حقد أو جهل أو عنصرية، هو عدوه وقاتله؟

نحن جنس غريب بلا شك، نَكره على اللون ونتعنصر على اللهجة ونميز على أساس العرق، حين ما كان اللون سوى تأثير الشمس (من عدمه) على بشرة جدودنا القدماء وما كانت اللهجة سوى تأثير التنقل والتخالط اللذين كانا سمة البشرية عامة وما كان العرق سوى خيط طويل مخادع، ينتهي إلى لا شيئ أكثر من…سمكة. لو أن العنصريون استوعبوا نظرية نشأة الكائنات، أنها كلها بدأت من كائن بدائي أولي في الماء زحف ذات يوم أغبر إلى اليابسة لتتفرع منه كافة الكائنات الأخرى لتصل إلى أجناس متنوعة مختلفة منها أجدادنا الأفريكانيس، الأثيوبيكس، الهومو هابيليس والهومو إيريكتس والنيانديرثال وصولاً إلى الهوموسيبيانس، وأن هذا التطور وقع لأنه في يوم أكلح قرر أحد الأجناس القديمة الهبوط من الأشجار لتجريب حظوظهم على الأرض ليحاولوا بعدها تقويم ظهورهم والوقوف على قائمتين ليتطور العقل ويتكون الوعي ويساءل الإنسان نفسه عن سبب وجوده ثم يتغطرس و”يتعنطز” بلون جلده أو امتداد عرقه، وهو أصلا لا يعدو أن بدأ من كائن مائي مسكين وحيد الخلية، لو أن المرضى النفسيين بنزعات الأصل والعرق واللون والتاريخ قد استوعبوا كل ذلك وفهموا أن البداية كانت “زفارة”، لما تمادوا في نزعاتهم ولما استمرؤوا عنصرياتهم. يعني فوق البدايات المتواضعة قلة عقل ومنطق مريبين، أي مصير ينتظر هذا النوع من الكائنات؟

أسأل الشابات والشباب أحياناً عن فهمهم لموضوع الأصالة، ما الذي يميز عائلاتهم التي تحافظ على نقاء دمها؟ هل لديهم صفة لا يمتلكها آخرون؟ نظر حاد مثلاً أو ذكاء خارق أو يستطيعون الطيران ليلاً على سبيل الأمثلة؟ إلا أن أحداً من الصغار لا يعرف ما يحدد أصالة الدم، أقرب الأجوبة هي أن هذه الأصالة تحددها حروب القبائل القديمة، أياً كان مكان هذه القبائل، شرق آسيا، منتصف الجزيرة أو آخر غرب أفريقيا، هو تحديد ينطبق على كل قبائل الدنيا، القبيلة التي تقتل أكبر عدد من أعدائها وتتغلب في غاراتها وتستحوذ على مقدرات القبائل الأخرى تكتسب سمعة تتحول إلى أصالة عميقة مع مرور الزمن، حتى لو تخلى أفرادها لاحقاً عن الحروب وسكنوا إلى المباني ذات السنترال البارد وشربوا من الثلاجات المستوردة. وما علاقة الدم بفسيولوجيته بالقدرة على الحرب والقتل والإغارة؟ لا يوجد جواب، يوجد فقط اعتقاد ساذج غريب راسخ بأصالة دم أسطورية لا وجود لها، اعتقاد يدفع بالناس للتخالف والتعاير وكثيراً الاقتتال وإراقة الدماء، اعتقاد يبرر للبعض أن يضع ركبته، فعلياً أو مجازياً، على رقاب الآخرين ليمنع عنهم الهواء الذي، في منظوره الغبي، هم لا يستحقونه بسبب لونهم أو لهجتهم أو عرقهم. كيف يمكن لجنسنا بأكمله أن يتنفس وبيننا من يفكر بهذه الدرجة من الحماقة والغباء؟

المسألة ليست بهذه البساطة بكل تأكيد، فتاريخنا البشري، رغم قصر زمنه ذي المئتي ألف سنة، قد عَقَّد الحيوات والعلاقات، وخلق التصنيفات والتمييزات، وكون قصص خلفت الكراهيات، وشكل ثروات أورثت الأحقاد. أعلم كل ذلك، وأقر بتعقيد المشكلة وتعدد أبعادها، لكنني حقيقة لا أستطيع أن أتغلب على هذا الشعور المفعم بالتفاهة، هذا الإحساس المفجع بالسخافة وبعدمية المعنى لكل شيئ. في هذه الحياة المنتهية حتماً وأكيداً إلى انفجار الكون وغياب كل شيئ فيه إلى عدم بارد، أي هدف لبني جنسنا يمكن أن يعطي لوجوده اللحظي أي معنى أو مغزى، ونحن بكوكبنا ومجرتنا ومجموعة المجرات التي تضمنا وكوننا الذي هو واحد من مجموعة من الأكوان المتوازية ذرة من ذرة من أصغر ذرة في هذا التكوين الشاسع غير قابل للتصور؟ لا معنى حقيقي لهذه الحياة بقصرها وسطحيتها سوى في اللحظة الآنية وأخلاقية وكرامة عيشها، كيف تصل هذه الفكرة لكائنات أصلها سمكة؟ هذا هو السؤال.

اترك تعليقاً