تحميل إغلاق

الرجل «الرائب»

الرجل «الرائب»

في خبر جديد ثوري الفحوى أليم التفاصيل، تمت مهاجمة سيدتين في أحد الأماكن العامة في إيران بسكب اللبن الرائب على رأسيهما بسبب خروجهما سافرتين بلا حجاب. المثير في الأمر أن السيدتين تعرضتا للاعتقال بسبب مخالفتهما لتغطية الرأس دون ورود أي خبر حول مهاجمهما الحقير، أعتذر عن قسوة التعبير هذا والآتي منه كذلك، والذي تظهر صفة حقارته جلية في الفيديو المنتشر له وهو يطال بيديه رأسي السيدتين بعنف وتكرار لضمان «إنزال العقوبة» بهما.
لكل ثورة ثمن يدفعه الثوار، لكل ثورة تضحيات يقدمها المؤمنون بقضيتهم راضين صابرين، إلا أن الثورة الإيرانية الأخيرة هي إحدى قلائل الثورات المركزة جندرياً، والتي تدفع ثمنها الغالي تحديداً النساء. بلا شك أن العديد من الرجال يدفعون ثمن مواقفهم المبدئية في الثورة الإيرانية الحالية مساندة لمواقف النساء وحقوقهن الطبيعية، بل إن منهم من فقد حياته إما في تصادمات مع الجيش أو لعقوبات إعدام شنيعة من أجل المبدأ، لكن الثمن الذي تدفعه النساء والتضحيات اللتي يقدمنها «مميزة» على أكثر من مستوى، مميزة من حيث نوعيتها، درجتها، وتركزها فعلياً في جنسهن الأنثوي، وفي الشعر تحديداً كدلالة على هذا الجنس وتدليل على «قدراته الإغوائية» حسب التصنيف الذكوري المهيمن اجتماعياً وتشريعياً.
ليس صراع المرأة بسبب جسدها، أوبسبب أنثويتها، بل بسبب وجودها في الحياة ككل هو صراع جديد، هذا صراع بشري غائر في القدم، بدأ يظهر بشكل أكثر منهجية بتحول المجتمعات من تلك البشرية البدائية إلى أخرى «متحضرة» ذكورية المنحى ذات الأديان متعددة الآلهة الذكور والذين كلهم تقريباً، بخلاف عدد محدود من الآلهة الأكثر اتزاناً ورحمة، عنيفون وشبقون، ويصارعون الجنس الأنثوي معلنين أنه مصدر الخراب الحياتي والفساد الأخلاقي. قدمت هذه الأديان الذكورية أسوأ ما في الذكورة من صفات على طبق التأليه، لتتحول الأنثى منذ ذلك الزمن وامتداداً حتى اليوم إلى مصدر إغواء، إلى كائن يجمع كل المتناقضات، فهي انفعالية، لا منطقية، غير عقلانية، هستيرية، مسرفة، إغوائية، وإن كانت عاطفية حنونة مقدسة وشهية. وهكذا فرضت الحضارات الذكورية هذه الصورة الغرائبية التهديدية للأنثى، لتتوارثها البشرية ببله عبر الأزمنة، لتصاحبها في رحلتها نحو التطور المعاصر وتلازمها في أفكارها الجنسية والجندرية، مهما جاهدت هذه البشرية لتطورها، إلى يومنا هذا.
وعليه، لأن فهم وتفسير الأديان الحديثة يتأثر بثقافات الناس وتاريخهم وحضاراتهم، ما انفصلت فكرة هستيرية وإغوائية وخطورة المرأة ككائن بشري أقل قيمة عن الفهم الحالي للأديان، لتحمل تفسيراتها في معظمها عداء للمرأة ومخاوف منها، كلها تتجلى في تشريعات متشددة تُتَرجم إلى أعمال عدائية، مثل هذا الهجوم المهين الأخير على السيدتين والذي تتعدد صوره ونوعية ضحاياه من السيدات في إيران، فلا تسلم من عنف هذا التفكير كبيرة ولا صغيرة، كاملة السفور أو نصف مغطاة، متحررة أو محافظة، ذلك أن التهمة ليست فعلاً، إنما التهمة جنساً، حالة بيولوجية يأتي بها الإنسان إلى هذه الحياة، لا يد له فيها ولا خيار.
مع كل خبر قبيح لحادثة عنف علنية، كتلك الأخيرة، يرتكبها رجل انتفت عنه كل «صفات الرجولة» التي يفهمها شرقنا المسكين فقط من منطلق دلالاتها البيولوجية أو تطبيقاتها المحافِظة، تموت بعض أرواحنا، مع كل إهانة متجددة يخرج منها مرتكبها بلا حساب أو عقاب، بل ويُكرّم بسببها بطلاً شهماً، نفقد نحن النساء المزيد من إيماننا بهذا الجنس البدائي الرديء الذي ننتمي إليه، جنس البشرية العنيف الأهوج غير القادر على التغلب على أفكاره البدائية الغائرة في القدم، غير المتمكن من الفكاك من أفكار وعنجهيات وعنصريات أديانه الذكورية القديمة، غير المستطيع لمواكبة زمنه هو وحضاراته الحالية التي صنعها هو، بل وأبسط قواعد المنطق والعلم وما يتبعهما من قواعد تنظيمية قانونية تحمي هذا الجنس من تهور ووحشية أفراده، أفراده هو بكل عنفهم ولا منطقيتهم وعنصرياتهم وبدائيتهم، والتي كلها صفات سحبتهم البشرية على ما يبدو معها من ماضيها القديم.
من المحزن أننا رددنا، بعد سماع خبر اللبن الرائب، أن «الحمد لله أن جاءت على هذا القدر»، فلم يكن المسكوب «ماء نار» أو لم يكن الهجوم بسلاح لربما أفقد المرأتين أكثر من كرامتهما وأمنهما، سلاح كان ليكلفهما حياتهما. وعلى حين أن فقد الكرامة ليس بأقل مرارة، إلا أننا سعيدات بنجاة السيدتين، ونذكرهما أن الإهانة العلنية المتبوعة بالاعتقال إنما هي التضحيات المقدرة لجنسنا والتي تقدمها بناته كل يوم وبأشكال وطرائق مختلفة. هذه الإهانات إنما هي دلالات مقاومة ومحافظة على الكرامة والحقوق، التي ستبقى تشرف جنسنا الأنثوي ما استمر على سطح هذه الأرض. لقد لطخ اللبن الرائب شعر السيدتين، آذاهما جسدياً ونفسياً، إلا أنه فعل أكثر بكثير للذكر الغبي مرتكب الفعلة، حيث لطخ هذا اللبن المسكوب عقله وأهدر كرامته التي لا يمكن أن يحميها سوى التعقل وحسن التصرف واحترام الآخرين. سيبقى هذا الذكر لأبد الدهر على هذا الفيديو المسجل، متهجماً على سيدتين مسالمتين، مخالفاً لأبسط قواعد القانون الرسمي والعادات والتقاليد الإنسانية، سيبقى أبد الدهر صورة متحركة للعنف والبدائية والغباء والحقارة في أبشع صورها، فهنيئاً له ذكراه العطنة المخلدة، والمجد كله للرؤوس النسائية يغطيها بياض الحــليب الرائب.

اترك تعليقاً