تحميل إغلاق

البطحة التي على رؤوسكم

البطحة التي على رؤوسكم

تضج الكويت منذ فترة بمواضيع الحريات الشخصية، هذه التي ينهبها بمساندة ديمقراطية عرجاء وبدافع من التدين والمحافظة رجال غرباء وغريبين في آن، رجال غرباء عن المكان والزمان وغريبين في الأفكار والتصرفات والتوجسات.

الحقيقة أننا فوق الإحراج الذي نعانيه أمام العالم الذي طالما نظر للكويت نظرة استثنائية بين دول الخليج، فإننا كذلك قد تعبنا، تعبنا محرومين الإنجاز لنعمل طوال الوقت بوظيفة “المصدات”، نحاول مقاومة بحر الرجعية الجارف ونصد صهد المحافظة الخانقة تلك التي بدأت تحولنا من المحبة والاحترام لعاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا إلى السخرية من طريقة فرضها وصولاً إلى درجة من الكراهية والنفور، منتشرة خصوصاً بين الشباب، مُهَدِّدة لأي ثقافة وسامة لأي مجتمع يحاول المحافظة على هويته أو يبقي على طابعه المميز الجميل.

قصة بعد قصة، موقف سخيف يلي موقفا أسخف، حالة من البلادة الفكرية والتسطيح الأيديولوجي والسخافة التقييمية للحياة استبدت بمحيطنا حتى دفعت بنا ككويتيين لنواجهها بسخرية باتت بحد ذاتها ممجوجة ومملة.

منذ أيام ونحن نتداول تعليقات وتغريدات عن ذاك النائب الذي يريد منع اليوغا من دخول الكويت. كيف تجادل هذا الإنسان وتحفظ في ذات الوقت لنفسك قيمة فكرية وحوارية؟ ماذا تقول ما بين جدية وسخرية يمكن لهما أن يوفيا الموضوع سخافته وخطورته في نفس الوقت؟ وطبعاً كما تكر سبحة سخريتنا التي باتت مملة، تكر سبحة التعليقات “الدينية المحافظة” الخارجة عن نطاق العقل والمنطق والزمان والمكان.

فما بين حرمة اليوغا لارتباطها بالبوذية، إلى ضرورة منعها لأن بها تشبّه بالحيوانات، نسائل نحن ككويتين أنفسنا: أي نواب اخترنا ليمثلونا؟ أي تعليم يدور في أروقة مدارسنا صاغ هكذا عقول تحمل هكذا منطق؟ أي تفاهة نعيش جعلت سياسيينا ورجال ديننا يظنون، وسط بحر الفساد والسرقات وتدني التعليم وتعثر الاقتصاد وخراب الشوارع وغياب الحد الأدنى من الإنجاز والإنتاج، أن اليوغا هي المشكلة؟

طبعاً ليس موضوع منع اليوغا هو الأهم، في الواقع هو الأخف والأكثر إتاحة للسخرية، تلك التي يعشقها الكويتيون خصوصاً في ظل ظروفهم الداخلية الحالية، لأن تظهر وتتجلى في أبهى صورها.

تتساقط قطع دومينو حرياتنا منذ فترة طويلة، لربما تجلت مؤخراً في أخطر صورها من محاولة تحريم انضمام النساء للسلك العسكري إلى محاولة إغلاق وحدة دراسات نسوية في قسم التاريخ بجامعة الكويت وصولاً إلى محاولة حجب نتفليكس، إلى أخف صورها من الدفع لإزالة شجرة كريسماس من مجمع تجاري إلى منع “كلاسات” رقص شرقي في النوادي النسائية وصولاً إلى التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما دخلت اليوغا (التي يمارسها الشباب والشابات منذ زمن الآن) إلى الكويت.

لكن ماذا نقول في مشرعين حرامهم يدور إما في دائرة كل ما يصل من الغرب أو يحوم فقط حول أي ظهور أو حضور للنساء، منظورهم لا يستطيع تجاوز الجسد، وفكرهم معلق في فكرة أن الإنسان مجرد مجموعة من الغرائز التي تتطلب طوقا من حديد يوضع على الأعناق، خصوصاً أعناق النساء، وذلك حماية للرجال من رغباتهم بحد ذاتهم. أي تفكير مشوه ملتو هو هذا؟

ورغم تقييماتي السابقة للأكثر أهمية من المواضيع وصولاً إلى أقلها، تبقى حقيقة أن كل حرية شخصية، مهما صغر شأنها أو قلت أهميتها، هي مهمة وحيوية ليس فقط لأصحابها ولكن كذلك من منطلق مبدئي حقوقي.

التغاضي عن منع رياضة اليوغا سيقود في يوم ليس ببعيد إلى منع السينما والفنون والرياضات بأشكالها، خصوصا إذا كان ما يقود الفكرة ويشكلها عقل ذكوري بحت، لا يرى في الرياضة أبعد من جسد يتثنى ويتلوى، ولا يستشعر من الإنسان الذي أمامه أكثر من نبضات الرغبة والشهوة.

كيف لا تخجلون من التصريح بفكرة كهذه تبين كم يبتعد تفكيركم عن حيز احترام الإنسان ككينونة فكرية ليبقى حبيس حيز الشهوة التي يبقى فيها الإنسان مجرد أداة غريزية خطرة على نفسه وعلى غيره؟

فيم دول الخليج حولنا تأخذ خطوات كبيرة نحو الانفتاح والتقدم الإداري والتكنولوجي، رغم اعتراضي التام على مسار الديكتاتورية المتنورة التي قد تعبّد هذا الطريق، نبقى نحن ندور في دائرتنا المغلقة، لا نتحرك ولو حتى للخلف.

نعيش حالة من الالتفاف حول النفس غاية في الغرابة، حالة تذكر بأفلام الخيال العلمي التي يعيش أبطالها ذات الأحداث مراراً وتكراراً بعد أن يحبسهم حدث كوني ما في دائرة زمن مغلقة مزمنة.

جهد وعمر وفكر نبذلهم جميعاً في مواجهة رجعية، تطرف، تشدد، تخلف ليست كلها فقط جامحة ولكن غريبة، مريضة، مجرد التفكير فيها يصيب الروح بصدأ سام “زنخ” الرائحة. متى يرحمنا القدر وتنفك اللعنة وتنحل الدائرة المغلقة علينا وعلى غريبي الأطوار والفكر والروح الذين نحسونا وأغلقوا الدائرة علينا؟

اترك تعليقاً