تحميل إغلاق

«لست أدري»

«لست أدري»

لم تكن في يوم ما فكرة قيام حزب سياسي ديني هي فكرة جيدة، فمثل هذه الكينونة تقوم على فكرة الحق المطلق التي يعتمدها هذا الدين، أياً كان، مما يجعل المنتسبين إليها يؤمنون تماماً أنهم بصدد تنفيذ خطة إلهية لا يمكن الحياد عنها ولا يتسنى سوى الإيمان التام بنجاحها. هذا الانقياد التام لسياسيين يتحدثون باسم الله يولد قوة جبارة، بلا شك، إلا أنها قوة لا يسيرها منطق ولا تشكلها آراء متعددة، هي قوة غيبية الدوافع ديكتاتورية القرارات. لطالما كان هذا هو التخوف الرئيسي من كينونة حزب الله التي أصبحت اليوم دولة داخل دولة. بالطبع، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور البطولي للحزب في طرد العدو الاسرائيلي من الجنوب اللبناني في نهاية الثمانينيات وفي المحافظة على استقلاليته طوال هذه السنوات، بل وفي الحاق خسائر هائلة بالجيش الاسرائيلي في 2006 كما فصلها تقريرهم المسمى بتقرير فينوغراد والذي نشر في 2007، إلا أنه كما يبدو، لكل خير يصيبنا في هذا العالم العربي ثمن، وكم كان باهظاً هذا الثمن على لبنان.
لربما هي هذه النجاحات المصحوبة بالقدسية التي تضفيها طبيعة الحزب الدينية على نفسها والمعلنة بوضوح في اسم الحزب هي لب المعضلة اللبنانية اليوم. لحزب الله تاريخ طويل، دموي في الكثير من التفافاته، الا أن نجاحاته العسكرية وهالته الدينية جعلت منه كينونة، عند الكثيرين، فوق النقد. فلا نحن قادرين على نقد سياساته العسكرية بسبب من غطائه الديني ولا نحن قادرين على نقد توجهه السياسي الديني بسبب مما أحرز من نجاحات عسكرية. زد على ذلك الفساد المتعاقب على لبنان من خلال قادة وحكومات ما فتئت تأكل من لحم البلد الحي وتفتحه ملعباً أمام القوى الاقليمية لتحرز انتصاراتها على أرضه، كل ذلك جعل من حزب الله كينونة فوق النقد وقوى حامية لا يمكن الاستغناء عنها في ظل الظروف الحالية وإلى أمد بعيد.
بعد أحداث اختطاف الجنديين في 2006 كان لي رأي شخصي متشدد تجاه الأحداث، كان الرأي أنه اذا ما قدم الحزب نفسه على أنه حزب سياسي عسكري، فلا بد له أن يلعب اللعبة بشكل صحيح، لابد له أن يحسب خطواته ويتكتكها سياسياً لا أن يقيسها دينياً. نعم، هو مقاومة، ونعم اختطاف الجنود هو حركة سياسية، ولكن كيف تم تقرير هذه الحركة؟ ما كانت هي الدوافع؟ وماذا كلف ذلك لبنان؟ لقد اصيب لبنان في قلبه، خسائر فادحة في الأرواح، تدمير تام لبنيته التحتية ولسياحته التي يعتمد عليها أهله في فصوله الشتوية الطويلة. وما كان أدهى وأمر، أنه وبينما قدمت إسرائيل تقرير فينوغراد تعدد فيه هزائمها وتحاسب نفسها وقادتها بشدة، احتفل الحزب «بالنصر الإلهي» ودماء أطفال قانا لم تكن قد جفت بعد. بدا قرار الاختطاف بعيداً عن الحكمة العسكرية وبدا الاحتفال الذي تلا بعيداً عن الحصافة الاجتماعية الإنسانية وبدا أن طبيعة حزب الله الثيولوجية هي التي خلقت هذا الواقع الغريب شديد التعقيد.
ولأن حزب الله بلد داخل بلد، لأن تمويله خارجي وميزانيته لربما أكبر من ميزانية لبنان بأكملها، لربما ساعد كل ذلك في تحجيم اسرائيل خلال الأحداث الحالية، ولكن بأي ثمن قادم ياترى؟ كيف يمكن قبول فكرة أن يتعرض بلد بأكمله لحرب، كما حدث في 2006، بناء على قرارات أحد أحزابه هو أقوى من البلد بحد ذاته وأشد تأثيراً اقليمياً؟ كيف يمكن ضمان عدم التفاف هذا الحزب لاحقاً على الداخل ومحاولته فرض السيطرة، ان لم يكن ذلك قائم فعلياً، كما رأينا سابقاً بعد أحداث عسكرية وسياسية عدة؟ واذا ما انتهى حزب الله بصورة أو بأخرى، فهل سيكون غير لبنان الذي سيدفع الثمن بسقوطه مجدداً أمام إسرائيل ولربما أمام أطماع جيرانه من العرب بحد ذاتهم خصوصاً وهو يعاني من الفساد الداخلي ومن الشد والجذب بين أطراف مختلفة مأجورة آخر همها هو مصلحة لبنان؟
انها معضلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يدفع ثمن التعامل معها لبنان تقريباً بمفرده كل يوم على الرغم من أن هذه المعضلة طبخت على نار اقليمية هادئة وبتدخلات خارجية هائلة. وهكذا يستمر قدرنا العربي البغيض في الاختيار، ان كان حقاً اختيار، بين السيئ والأسوأ، بين أهون الأمرين، متى يا ترى ستحضرنا فرصة اختيار حقيقي أولاً واختيار مُرضٍ ثانياً؟ «متى «ننجو» من الأسر؟ وتنجو؟»*
من طلاسم أعذب شعراء العرب، إيليا أبو ماضي.

اترك تعليقاً