تحميل إغلاق

ياسمين ابتهال الخطيب*

ياسمين ابتهال الخطيب*

كتبت في مقال سابق عن معضلة المرأة الحالية في شرق الكرة الأرضية عموما، وإن كانت المشكلة تتعمق في أوسط شرقها تحديدا، مع كينونتها المدنية المواطنية، وذلك من حيث مدى اكتمال مواطنتها وبالتالي اعتبارها شخص كامل الأهلية والحقوق والواجبات في الدولة المدنية الحديثة.

لا تزال المرأة في معظم الدول الشرقية كيان غير مكتمل، لا يحتمل الدور المواطني الكامل، لا يستطيع إضفاء الهوية الوطنية على نسله، مما جعل المرأة في الشرق عموما أحد أكبر مصادر انعدام الجنسية. لا يتأتى انعدام الجنسية من طرف المرأة لكونها محرومة من تجنيس أبنائها في بعض دول العالم فقط، ولكن كذلك ولزمن قريب لكونها أنثى أصلا، ومثال على ذلك ما أشيع من ارتفاع نسبة انعدام الجنسية بين الإناث تحديدا في الصين وإلى وقت قريب (حيث يبدو أن هذه المشكلة قد تم إنهاؤها) بسبب قانون الطفل الواحد الذي يهدف لتحديد النسل. ولأن معظم الأسر ترغب في صبي، فإن قدوم طفلة أنثى يعد مشكلة يتم حلها بعدم تسجيل هذه الطفلة في الأوراق الرسمية، وبالتالي تنعدم جنسيتها ولا يصبح لها وجود في الدولة.

وفي عارض الحوار الدائر في الكويت حول قصور اكتمال مواطنة المرأة، وهو موضوع شديد الغرابة في مجتمع هو الأكثر تفتحا وتحقيقا لاستقلالية المرأة في منطقة الخليج ولربما في المنطقة العربية بأكلمها، دوما ما يعرج الحوار على الجانب الديني والذي يقود بشكل طبيعي إلى الجانب الاجتماعي التقاليدي.

يمزج الشارع العربي الإسلامي عموما المفاهيم الدينية بالمفاهيم التقاليدية بالمفاهيم المدنية صانعا منها خلطة غريبة عادة ما يصبغ بها حياة أفراده الحديثة التي لا تحتمل الطبقات اللونية المتنافرة لهذه المفاهيم.

بإلقاء نظرة على الحوارات الدائرة على وسائل التواصل الاجتماعي (أحدث ما وصلني منها انصب تعليقا على مناظرة تمت بيني وبين برلماني سابق تحديدا حول موضوع تجنيس أبناء الكويتية) يتبين أن معارضي التجنيس يرتكزون على فكرة أن الأبناء يتبعون نسب الدم الأبوي، هم نوعا ما ملكية ذكورية، ينسبون للأب ويفترض أن يحملوا كافة تصنيفاته الهوياتية: الانتمائية، اللغوية، الدينية، الاجتماعية وغيرها. لذلك، كانت إحدى الحجج الرئيسية المساقة ضد تجنيس المرأة لأبنائها هي أن هؤلاء الأبناء يسجلون رسميا باسم الأب، لذا يستوجب أن يسجلوا رسميا على جنسيته كذلك، وإلا “خلوا الأبناء يحملون اسم المرأة، هذا الي ناقص بعد!”.

نعم، ربما هذا هو “الناقص” الحقيقي. بلا شك يخلط المعارضون هنا بين مفهوم ديني ينسب الأبناء دما ودينا ونسبا للآباء وبين فكرة مدنية تنسب الأبناء من خلال تسجيل جنسياتهم لمواطنيها ذكورا كانوا أم إناثا. ورغم أن المفهوم الديني بحد ذاته قابل للنقاش وإعادة الفهم والتفسير (فنسل النبي محمد يمتد من ابنته فاطمة، ونسب المسيح يرتبط بامرأة لا رجل) مما يجعل المفهوم هذا قابل جدا للمواءمة المدنية، إلا أن هناك مقاومة عربية إسلامية عنيفة لفكرة نسب الأبناء مدنيا لأمهاتهم.

هذه الجدل الديني/المدني يدفع بنا إلى مسار وعر لا بد للمؤمنين بالاستحقاق الإنساني الكامل للمرأة من السير فيه. الحقيقة أنه لن يتغير واقع المرأة المدني إذا ما لم يتغير واقعها الاجتماعي وهذا بدوره يتطلب اتساع المفاهيم الدينية لتكون أكثر تقبلا للتطور الإنساني والمدني والحضاري الحاليين. لا بد أن يبدأ التغيير من الحيز الاجتماعي، لا بد من تفعيل دور المرأة العائلي ومن تغيير هرمية القوى في الأسرة لتصبح فيها المرأة على ذات مستوى اتخاذ القرار تماما مع الرجل، وإلا ستستمر حالة التناقض الغريبة التي تعيشها المرأة كل يوم.

في الكويت وإلى زمن قريب، كانت المرأة لا تستطيع تجديد أوراقها الرسمية بنفسها، ولي أمرها، الأب أو الزوج أو الوصي، هو من يستخرج جواز سفرها مثلا أو أي من أوراقها الرسمية، وفي ذات الوقت، هذه المرأة كانت تتبوأ منصب الوزيرة والسفيرة والنائبة في المجلس، فكيف يستقيم الوضع؟ كيف تستطيع الوزيرة مثلا أن تتخذ قرارات مصيرية وفي ذات الوقت هي لا حكم لها على أوراقها الرسمية ولا تستطيع أن تستكمل أي مراجعة حكومية بلا ولي أمرها؟

استدعى هذا التناقض الحياتي تغيير هذا القانون بعد أن تم رفع قضية في المحكمة الدستورية. اليوم بقية التناقضات الحياتية الغريبة تقسرنا على أن نفتح أعيننا على أوجه القصور الحقوقية التي تطال المرأة والأوضاع الغريبة المتنافرة التي تنتج عنها فنتساءل، كيف تستقيم الحياة؟ إلى متى؟

نعم، للمرأة، حقوقيا ومنطقيا وإنسانيا، الحق في أن تورث اسمها لأبنائها كما هو حق للرجل، إذا تحقق ذلك سيتغير الكثير من الواقع المعيشي الاجتماعي للمرأة ليتحول من اعتبارها عبء أو خسارة (خصوصا حين تتزوج من خارج عائلتها) إلى اعتبارها مصدر للسلالة على مستوى العائلة ومصدر لصنع المواطنين على مستوى الدولة.

للمرأة كذلك حق في أن تورث جنسيتها ولغتها ودينها وكل جوانب هويتها للأبناء، وهو في الواقع ما يحدث مع الهويات غير الرسمية كالدين واللغة والانتماء النفسي والتي جميعها غالبا ما يتبناها الأبناء عن الأمهات لا الأباء. للمرأة الحق أن تكون إنسانة كاملة لها سلالة تمتد عنها، لها أسرة تنتمي إليها لا أسرة تنجبها وتكونها امتدادا للرجل وتحقيقا لوجود أسري واجتماعي وديني له، فيم هي تقف على الحياد، لا هي تنتمي لأسرتها الأصلية بعد زواجها ولا هي تنتمي لأبنائها الذين لها النصيب الأكبر والأصعب في صنعهم. للمرأة الحق في أن تصنع كينونة حقيقية، أن تقف في منطقة واضحة ومنورة من الحياة لا أن تختبئ دوما في بقعة غائمة دون أثر أو امتداد.

سينظر لهذا الرأي على أنه خروج عن الرأي الديني وعن العرف الاجتماعي، إلا أن هذا الرأي، على صعوبته وما يبدو من استحالته الحالية، يسانده المنطق الإنساني والمفاهيم العلمية الحديثة والمبادئ الحقوقية المعاصرة، ومن هنا يجب على القراءات الدينية والأعراف الاجتماعية أن تلحق بالزمن لا أن تطلب من الزمن العودة خلفا إليها.

في الواقع، وقبل كل شيء، لن يتحقق للمرأة الوجود الكامل دون تغيير جذري في واقعها يبدأ من تغيير قوانين الأحوال الشخصية أولا وقبل أي شيء. حين تصبح المرأة بذات القوة الإنسانية والنفسية والاجتماعية في محيطها، حين يصبح الطلاق حقها مثلا كما هو حق الرجل، وفرصها في حضانة الأطفال وحقوقها السكنية والمعيشية والمدنية متطابقة وتلك التي للرجل، حينها فقط ستصبح المرأة مواطنة حقيقية، وستتحول إلى “أسرة” هي وأبنائها، حيث أنه في الوقت الحالي، وفي أغلب الدول العربية الإسلامية، المرأة وأبناؤها لا يشكلون أسرة، لا بد من وجود ذكر في المعادلة ليحقق الكينونة الأسرية.

نعم، إلى أن تصبح المرأة إنسانة كاملة اجتماعيا تماما، زواجها وطلاقها بيدها، إرثها كما إرث أخيها، حاضنة مكتملة الأهلية لأبنائها، وصية على نفسها وعلى أبنائها، اسمها له ذات ثقل الاسم الذكوري في مستقبل الأبناء وفي بناء وجودهم وكيانهم وهوياتهم، إلى أن يتغير الواقع الاجتماعي القديم الذي خلق من المرأة كينونة ثانوية تابعة موصى عليها إلى واقع حديث يحيلها كينونة رئيسية قيادية مكتملة الأهلية، إلى أن يتحقق كل ذلك لن يتغير الكثير من واقع المرأة المدني في دولتها.

من يستنكر اسم المرأة بجانب أسماء أبنائها في أوراقهم الرسمية عليه أن يتوقف لحظة ويسأل، منطقيا، عن سبب هذا الاستنكار. فإذا أتت الإجابة تحمل شيئا من معنى العيب والحرام و”اللايجوز” وهذا هو العرف ومن متى نحن نفعل ذلك و”هذا إلي (الذي) ناقص بعد”، عندها علينا أن ندرك أن الإجابة مخلخلة ضعيفة لا معنى لها، انفعالية هوجاء دون منطق أو سند، قديمة رجعية لا إنسانية ولا حقوقية، والأهم أنها بلا تفسير واضح، لا ديني ولا نفسي ولا تاريخي.

اليوم لدنيا مقاييس منطقية، علمية، حقوقية نحتكم إليها في رسم حيواتنا الاجتماعية المدنية، دونها نحن نعيش حالات متناقضة غريبة، لا نستطيع تفسير تمسكنا بها سوى بجملة “هذا إلى ناقص بعد”.

*  اسم آخر العنقود

اترك تعليقاً