تحميل إغلاق

معلبات

معلبات

كتب أحدهم على تويتر يقول «أنا لا أريد فرض ديني على أحد، لكن من يعيش في بلد إسلامي عليه احترام مبادئنا وآدابنا». أعتقد أن هناك خلط في مفاهيم عدة ها هنا، مفهوم الفرض، مفهوم الدين، مفهوم البلد الإسلامي، مفهوم الاحترام، ومفهوم المبادئ والآداب. من يطالب بالدولة الدينية، أياً كانت ملتها، هو يفرض هذا الدين على الآخرين، أقلية كانوا أو أكثرية ممن يعيشون على أرضها. فمن ينادي بالدولة الدينية هو ينادي بتطبيق تشريعاتها من خلال التقنين، أي جعل التشريع قانونا يطبق على مواطني الدولة. ومن هنا ندخل مفهوم الدين، فحتى لو كانت الدولة بأكملها على دين واحد، وهذه حالة غريبة مريبة تدعو للتوجس، فلابد أن للناس طوائف مختلفة من هذا الدين، وحتى لو كانوا كلهم على طائفة واحدة، وهذه حالة عجيبة تقترب من المرض، فلابد أن لهم تفسيرات ومفاهيم مختلفة، وأما اذا كانوا كلهم معلبين في الأفكار والمفاهيم نفسها ، وأنا حقيقة لا أعرف مجتمعا على هذه الشاكلة، فاللهم كافينا الشر، هذا مجتمع لا أريد أن أعرفه، هو كوريا الشمالية مضاعفة مئات المرات من حيث قمعها وقسوتها وغرابة الحياة فيها.
في الكويت مثلاً، يتكون المجتمع من ثلث شيعي وثلثين سني تقريباً، فأي تشريع ستعتمد الدولة وأي قانون ديني ستروم؟ في البحرين الشعب ذو الأغلبية الشيعية تقوده قيادة سنية وفي سوريا الشعب ذو الأغلبية السنية تقوده قيادة علوية، فأي قانون ديني سيطبق؟ وحتى اذا ما تجاهلنا الديموقراطية الحقة التي تحمي حقوق الأقليات، فقمعنا الأقلية وطبقنا عليها شريعة الأغلبية، فأي شريعة ستكون تلك؟ أي فكرة، أي مدرسة، أي فلسفة منها؟
يمكن إجبار البشر على الخضوع لأي قانون الا قانون يختلف وعقيدتهم، فعلى سبيل المثال، يمكن للجميع أن يخضع لعقوبة مخالفة مرورية وان رأوها جائرة اذا ما طبقت بالعدل على الجميع، الا أن الشيعي لن يقبل بحال أن يجبر على دفع زكاة، كما أن السني لن يقبل أن يؤدي الخمس. فكيف ستضمن أي سلام سياسي واستقرار اجتماعي في ظل فرض قوانين عقائدية على بشر لا يؤمنون بهذه العقائد؟
هذا يأتي بنا لمفهوم الدولة الدينية، فالعقيدة هي عقيدة بشر، لا توجد دولة متدينة، هناك بشر متدينون. الدولة بمبانيها وشوارعها وبنيتها التحتية لا تدين بعقيدة، لذا فانه من الخطأ وصف الدولة بدينية، وهذا تمييز مهم، لأننا أذا ما أقررنا بجمادية الدولة وعدم تمكنها من اتخاذ دين، ستتضح فكرة الحيادية التي نطالب بها هذه الدولة «الجماد» تجاه البشر «الأحياء» الذين هم من يدينون ويعبدون ويختلفون ويتفقون. وعليه، يجب أن تتخذ الدولة المؤسسية موقفاً محايداً من خلال قوانين مدنية تساوي بين أفرادها، تقف منهم على المسافة ذاتها، أما الدولة المتدينة، يعني دولة تصلي وتصوم وتحج بيت الله، فتلك لا وجود لها، فالمباني والشوارع لا تصلي ولا تصوم ولا تحج، انما المعنى منها أن نظامها وحكومتها متدينان «سياسيا» وفرض عقيدتها على الجميع يعني فرض عقيدة هذا النظام وتلك الحكومة، وهنا عدنا لمفهوم فرض عقيدة جماعة قوية صغيرة على أغلبية مهمشة كبيرة.
نأتي هنا لمفهوم الاحترام، وهو المفهوم الذي أصبح بعبعاً لإخافة الناس ومنعهم عن أي نقد. أولاً، لا يجب للاحترام أن يمنع النقد، وحتى النقد العنيف منه، بل ان الاحترام يستوجب النقد ومراجعة النفس للإبقاء على نقاء الأفكار ومعاصرتها. ثانياً ليس احترام عقيدة الآخر واجب في الحقيقة، قبول وجود عقائد مختلفة، والإيمان بأحقيتها في الوجود هو الواجب، أما احترامها فليس فرضاً على الأشخاص ولا يجب أن يكون شرطاً للسلام بينهم. هناك الكثير من العقائد والفلسفات الدينية التي لربما نراها غريبة، خيالية بل ومضحكة، وتلك لا بد أن تستدعي النقد بل وأحياناً السخرية، وأحياناً تتجلى هذه الغرابة في الداخل الديني الذي نؤمن به، ولدينا نحن في الداخل الإسلامي من الفتاوى ومن القطبين، الشيعي والسني، ما يملأ كتباً كاملة بالغرابة والفكاهة. المطلوب هنا إفساح المكان للمعتقدات المختلفة والإيمان الكامل بأحقيتها في الوجود لا أحقيتها في الاحترام.
نأتي أخيراً إلى مفهوم المبادئ والآداب الدينية التي يتعامل معها البعض على أنها كتلة موحدة، أو في أفضل الأحوال على أن لها شكلا عاما وخطوطا عريضة يتفق عليها أصحاب الديانة الواحدة. هذه الوحدة الفكرية في الواقع هي أكبر كذبة اخترعها البشر لقسر مجموعة كبيرة على اتباع قوانين ومحاذير مجموعة صغيرة مسيطرة. كيف يمكن لإنسان فرد أن يتحكم في مليون انسان؟ هي فكرة يبثها، يعطيها قدسية، ثم يلبسها لباس العقيدة ويزينها بحلي من المبادئ والآداب، وهكذا تصبح الفكرة مقدسة، لا يمكن لأحد أن يمسها بالنقد دع عنك التشكيك. لذا، عود على بدء، إذا ما لم ترد فرض عقيدتك على أحد وكنت تؤمن فعلاً أن «لكم دينكم ولي دين»، فاقبل الاختلاف على أنه حقيقة واقعة، وتقبل التعددية على أنها طبيعة بشرية، وكف عن محاولتك تطبيع الآخرين بطبائعك وتدجينهم بمفاهيمك وإيمانياتك، لا تغير الآخرين، فقط تعايش مع اختلافهم، واعلم أن الدنيا لن تنتهي وحدة موحدة والبشر نسخا متكررة من بعضهم بعضا، لن تأتي نهاية العالم والبشر كلهم على دين واحد، لن يأتي مخلص ليفرض دينك على بقية العالم ويجثيه على ركبتيه، ستأتي النهاية مؤلمة، مرعبة، والبشر أكثر اختلافاً منهم اتفاقاً، فلا تجعل الرحلة النهاية أكثر إيلاماً من نقطة الوصول. عش ودعنا نعيش.

اترك تعليقاً