تحميل إغلاق

‘كومودينو’

متظاهرون تونسيون يطالبون بالمساواة بين النساء والرجال

‘كومودينو’

على إثر أكثر من مقابلة حديثة سألني خلالها مقدميها حول موضوع منع الكحول في الكويت، حضرتني فكرة إشكالية موضوع الكحول في عالمنا العربي الإسلامي عموما، وفي منطقتنا الخليجية تحديدا، والتي (أي المنطقة) رغم غرقها في المشروبات الكحولية التي يتم تداولها على نطاق واسع وإن كان سريا، فإنها غاية في الحساسية تجاه موضوع شرب الكحول. وترتبط عادة الشرب هذه بالسمعة لأسباب عديدة جديرة بالدراسة والبحث.

وعليه تبدو إشكالية استهلاك المشروبات الكحولية في منطقة الخليج إشكالية مظهرية مرتبطة بسمعة المعنيين بالأمر أكثر منها إشكالية دينية، فهناك عدد من المدارس الدينية في الواقع التي لا تحرم الخمر، وهناك مدارس أخرى تحلل القليل منه الذي لا يسكر إلى غيرها من المدارس الفقهية التي يمكنها أن تكون طيعة بعض الشيء تجاه هذا الموضوع.

ويبدو أن كثيرا من مستهلكي المشروبات الروحية يجمعون في الواقع عادة الشرب هذه بمظاهر المحافظة والتدين، مما يؤكد أن المعضلة بالنسبة لهم ليست دينية وإنما مظهرية مرتبطة بالسمعة.

إذن التشدد الحاصل هو تشدد اجتماعي مرتبط بالمظهر والسمعة وليس في الواقع مرتبط بالتدين أو حتى بالأخلاق، فاستهلاك الكحوليات مرتفع في المنطقة العربية عموما، والخليجية خصوصا، والحصول عليها عملية سهلة وإن كانت مكلفة، والتنصل من حرمتها واضح يسد عين الشمس، يضربك على رأسك ما أن تصعد طائرة متجهة إلى جهة لا تمنع الكحول، حيث سترى مباشرة أصحاب لغة الضاد وقد وضعوا السمعة في الثلاجة والحلال والحرام في درج “الكومودينو” وانطلقوا، وهم بعد في الهواء، لشرب أكبر كمية ممكنة بلا تريث أو حدود.

إلا أن الأدهى والأمرّ هو ربط الشارع، ذاته الذي تشرب نسبة جيدة منه الكحول خفاء، للمشروبات الروحية بالحراك الليبرالي، فتجدنا ما أن نتحدث عن الليبرالية كأساس للحياة الإنسانية الجديدة أو حتى كمفهوم فلسفي، حتى يهاجمنا أعداؤها بالاتهام بأنها تدفع بإباحة الخمور، وكذلك “بالتعري” بلباس البحر الذي من غير الواضح لمَ يتم دمجه تباعا ودائما مع شرب الخمور، وكأن أخطر ما يمكن أن يحدث لمجتمع ما هو هذه الإباحة للخمور أو هذا القبول بلباس البحر، وكأن الفساد لا يغرق مجتمعاتنا رغم المنع والحظر والتغطية والتورية.

في تجربتي الشخصية، كلما أتى النقاش على الليبرالية، فزّ أعداؤها لرمي هاتين الجمرتين في طريق الحوار: تريدون للخمور أن تجري في الشوارع وللمايوهات أن تملأ شواطئ البحر عندنا؟ مما يجر دائما السؤال المنطقي اللاحق: هل تعتقدون أن مجتمعاتنا فاسدة (حسب مفهومكم للفساد) لهذه الدرجة، فما إن ينفرج شباك الحرية بعض الشيء حتى تهب منه رياح المخمورين العارين مشعثي الشعر الراكضين كما المجانين في الشوارع؟

وإذا كنا كذلك، فلأي هدف تحاول إنقاذ هؤلاء الفاسدين بدفس “الفضيلة” في حناجرهم كأنهم بط يتم “تزعيطه”؟ هل يحاول “أصحاب الفضيلة” إدخال هذه الثلة الفاسدة الجنة؟ إذا لا، هل يحاولون إنقاذ المجتمع منهم؟ كيف أصلا يتم إنقاذ المجتمع من أغلبيته الفاسدة كما يدعي أصحاب الفضيلة أنفسهم؟

هي دائرة مغلقة، وعلى أصحاب الفضيلة أن يختاروا: إما أن المجتمع بأغلبيته فاضل وعليه لا خوف عليه من الحرية، أو أن المجتمع بأغلبيته فاسق وعليه لن يفيد معه قمع الحرية ولا القسر على الفضيلة ولن يكون مستحقا أصلا للجنة التي يحاول أصحاب الفضيلة توجيهنا جميعا إليها.

الليبرالية هي فلسفة الحرية، فلسفة إطلاق العنان لفكرة الإنسان، لعقله المتجول الذي لا يهدأ منذ صرخة الولادة وحتى شهقة الموت.

هي فلسفة تفسّر معنى تلك الإشارات العصبية التي تنطلق من المخ وصولا إلى العينين والأنف والفم واليدين والقدمين لتقود هذا الإنسان إلى الجديد والغريب وأحيانا المستحيل. هي فلسفة الانطلاق في السماء، كما نفعل في أحلامنا أحيانا، والغوص في أعماق الأرض، كما تقودنا كوابيسنا غالبا.

هي فلسفة إحياء العقل وتفعيله، لكي يتحول من مجرد جهاز جامد ينقل الإشارات، إلى كتلة ذرية مشعة خلابة، تحيي صاحبها مئات الحيوات، وتفتح له آلاف الأبواب، وتسخر له ملايين الممكنات.

تلك هي الليبرالية الجميلة التي أنقذتنا من القمع والاستغلال والتعنت والكبر البشري الساذج السخيف. تلك هي الفلسفة فارعة الطول، قاهرة الجمال، التي حولها حراس الفضيلة إلى سيدة ليل مخمورة عارية، وهي الصورة، ويا لفضل الليبرالية الرائع، التي رغم حزنها وكذبها لا ترفضها الليبرالية بكراهية، بل تحتضنها برحمة لتقول إن هذه السيدة “الفكرة”، والتي لا تمثل الليبرالية في شيء، هي فكرة إنسانية كذلك تستحق حماية واحترام الليبرالية، تستحق الوقاية وهي مخمورة وتستحق المساعدة وهي عارية وتستحق النظرة الإنسانية الشفيقة حتى ونحن لا نتفق وسلكها.

هذه هي الليبرالية، من لا يتفق مع مفهومها العميق، وعذرا على أحكامي المتشددة، هو متعجرف ساذج في اعتقاده بامتلاك كافة الحقائق ومطلق الأحكام، من لا يزال يعتقدها كأس خمر ومايوه، هو عبد لرغباته وغرائزه لا يستطيع أن يحكم على ما يرى ويسمع ويقرأ سوى من خلالهما، أما من لا يزال يحاربها، فنقول له ضع سيفك الخشبي جانبا ولا تضحك العالم علينا وعليك، فقط استمتع بجمال طواحين الهواء.

اترك تعليقاً