تحميل إغلاق

في كهوف عميقة

في كهوف عميقة

حين يموت رجل في الشارع أمام أعين الناس بسبب لونه، تبهت خطورة الوباء الحالي وتصغر كل المخاطر الأخرى التي طالما هددت وجود البشرية، فأي كارثة يمكن أن تحيق بنا أعظم من تلك التي تسكن نفوسنا، المغروسة عميقاً كأنها فيروس كامن في ضمائرنا، يقفز ببشاعة على وجه أحداث حيواتنا بين فترة وأخرى، فيحصد ما يحصد من ضمائر وأخلاقيات وإنسانيات، ويتركنا مكشوفين بلا دواء أو مصل يحمي نفوسنا من التشوهات القاتلة؟ حين يموت رجل على مرأى ومسمع الناس في الشارع العام، نعلم أن مصيبتنا البشرية ليست مع الكوارث الخارجية، إنما تتمركز في كوارثنا الداخلية، في الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا ويقيّم بها بعضنا بعضاً، في غرورنا و«عدم ذكاء» جنسنا الذي يعتقد أن بعضه أفضل من بعض بسبب لون أو امتداد عرق أو وراثة معتقد، في حين أن كل حيواتنا وظروفنا لا تشكلها سوى ضربة حظ هوجاء، وضعتنا هنا ووضعت الآخرين هناك.
فيروس كورونا، مثله مثل كل الأوبئة الأخرى، يأتي وينتهي ولو بعد حين، لكن فيروس الغباء والعنجهية البشرية، هل يمكن أن ينتهي في يوم؟ لقد صاحَبنا هذا الفيروس منذ بداية تشكيل الحضارات الإنسانية، وربما قبلها بقليل، واستمر إلى اليوم، لا يحصد الضمائر والأخلاق الإنسانية فحسب، بل الأرواح والأجساد الفعلية أيضاً، في مثال لأقدم وأخطر مرض تعاني منه البشرية وما زالت: العنصرية. إذا كان البشر لا يزالون، في القرن الحادي والعشرين، يموتون بسبب لونهم، وإذا كان هناك رئيس دولة لا يزال يبني الجدران العازلة ويشير، ولو ضمنياً، إلى سيادة لون على لون، وإذا اتُّهم الشرق آسيويون فقط بسبب أشكالهم على أنهم حملة فيروس كورونا والمروجون الأساسيون له، وإن لم يضعوا قدماً في دولهم الأًصلية في يوم، وإذا تعذب الإيغور والروهينجا بسبب ديانتهم الإسلامية، وتفجرت الشوارع والمباني الأوروبية والأمريكية «مكافحة للمسيحية»، وكُره اليهود حيث كانوا وأياً كانت آراؤهم دمجاً لهم بالحركة الصهيونية الفاشية، وإذا اضطهدت إنسانة بسبب غطاء رأسها أو وجهها، أو تعنفت أخرى بسبب غياب الغطاءين، وإذا ما زال الصغار يسلحون، يجوعون، يبيتون في الشوارع، وإذا ما زال البعض يموت جوعاً وعطشاً وآخرون يموتون تخمة… حينئذ نعلم أن فيروس كورونا هو أقل مخاطرنا ويفترض أن يكون آخر همومنا.
لفظ جورج فلويد أنفاسة تحت ركبة الشرطي الأمريكي الأبيض الذي ظل ضاغطاً بها على رقبته لمدة تسع دقائق كاملة، لماذا؟ لأن فلويد أسود والشرطي أبيض، والمعادلة البشرية تقول إن الأبيض فوق الأسود، لماذا؟ لأننا جنس عجيب، لا منطق لإيمانياته، لا عقلانية لمعتقداته، نتوارث المفاهيم غيابياً، نؤمن بها ونحتضنها عميقاً، ونموت من أجلها من دون أن نعرف كيف تشكلت وعلى أي أسس واقعية حقيقية منطقية بُنِيَت. مات فلويد لأن أجداده كانوا عبيداً عند أجداد الشرطي الأبيض، مات بسبب ثأر معكوس، يفترض أن يكون هو الحاقد الكاره في معادلته، إلا أن عته العنصرية امتد جيلاً بعد جيل، ليصل بكامل قواه الغبية إلى القرن الحادي والعشرين دافعاً بسلالة الظالمين للانتقام من سلالة المظلومين، أي منطق في أي مما نفعل ونتوارث؟
ما حدث لفلويد ليس جديداً، فالسود يموتون منذ أربعمئة سنة على الأرض الأمريكية بشكل أساسي بسبب لونهم، كما يموت بشر آخرون في أنحاء الكرة الأرضية منذ آلاف السنوات لأسباب معجونة بالغباء البشري ذاته. موت فلويد، كما موت بقية المنكوبين من البشر، ليس مسؤولية البقعة التي يموتون عليها ولا المجموعة البشرية المتسببة مباشرة بهذا الموت، هي مسؤولية البشرية كاملة، ذنب البشرية كاملة. دم فلويد في رقبة كل البشر الذين يقتلون بسبب عرق أو دين، الذين يضطهدون بسبب جنس أو انتماء أو هوية، الذين يعذِّبون بسبب جهل أو إهمال أو لا مبالاة. الجهل والإهمال واللامبالاة والانغماس في الحياة دون تحمل مسؤولية الآخرين من بني جنسنا هي جريمة قتل كذلك، جريمة بطيئة تعذيبية تحقيرية، يقتل من خلالها «المرتاح» الجاهل ببطء وصلافة وعنجهية «المعذب» المهمش. جريمة قتل فلويد ليست مسؤولية أمريكا البيضاء العنصرية فقط، هي مسؤولية بشرية بدائية أصولية، شكلها الخارجي جميل متطور، فيما داخلها لا يزال يعيش في الكهوف العميقة، يلبس صوف الحيوانات ويمضغ لحمها نيئاً. دم فلويد في رقابنا جميعاً.

اترك تعليقاً