تحميل إغلاق

عناد

عناد

خرجت أتمشى تحت رذاذ مطر أبى أن يتوقف على مدى ثلاثة أيام بينما كنت أحضر مؤتمرا ما في ولاية ما في الولايات المتحدة. دخلت أحد المتاجر البسيطة التي صادفتني على الطريق، تبضعت بعض الأشياء وتوجهت لصندوق الدفع للمحاسبة، كنت أفكر في كوب القهوة وشطيرة الجبن اللذين ينتظرانني في غرفة الفندق الدافئة بشوق بعد يوم طويل مرهق من التجول في المدينة.
رفعت رأسي للسيدة التي تناولت أغراضي تطويها برفق وتضعها في الكيس، فإذا هي فتاة صغيرة، خمنت أنها في الخامسة عشرة، ربما أكبر بقليل. بدأت الصغيرة تدق بأصابعها قيمة أغراضي على الكمبيوتر أمامها، إبتسمت لي بوهن وعلقت: «جميلة هي حقيبتك يا سيدتي»، «شكرا لك عزيزتي» قلت لها وأنا أنظر في وجهها الصغير المتعب. تلمست بيدي الحقيبة العزيزة عليّ، رسمها لي يدويا فنان في الكويت، أحبها جدا وأحملها في كل رحلاتي للخارج، كأنها قطعة من بلدي أحملها على كتفي. ليست الحقيبة مكلفة مطلقا، بسيطة القماش والتصميم، الا أن لها معنى في نفسي، لربما تشعرني بالأمان وأنا بعيدة عن بلدي. رفعت رأسي مجددا للصغيرة أمامي، لربما هي في عمر ياسمين إبنتي، هذه الكامنة الآن في حضن والدها، طلباتها مجابة، أمنها ومستقبلها وسعادتها هي غاية آمالنا وأهم أهدافنا أنا ووالدها، كم هي المسافة بعيدة بين إبنتي وبين هذه الصغيرة الواقفة تعمل بجد بعد أن تعدت الساعة التاسعة ليلا، كم هي المسافة بعيدة بيني وبين هذا المتلحف غطاءه الملوث خارج المحل، نائما على ناصية الشارع، كم هي المسافات بعيدة دائما بيننا، كل ما يباعدها هي مجرد ضربة حظ، مجرد قمار جيني، وضعني في مكاني ووضع الصغيرة خلف صندوق الدفع ووضع الرجل المرتجف تحت رذاذ المطر على ناصية الشارع.
أخذتني رغبة ملحة في تقريب المسافة ولو رمزيا، في خلط الأوراق ولو خياليا. طلبت من الصغيرة كيسا إضافيا، والذي بعد أن ناولتني إياه بإبتسامة عذبة، أفرغت فيه كل محتويات حقيبتي لأناولها إياها. «لي صغيرة عمرها من عمرك،» قلت لها، «تذكرينني بها كثيرا، لذا أرجو أن تقبلي الحقيبة هدية مني». «لا يستوجب عليك فعل ذلك سيدتي» قالتها الصغيرة وقد برقت عيناها فرحا، لربما إستغرابا، «بل أود فعل ذلك» رددت عليها بحب صادق. بينما أنا أسرع خروجا من المتجر، شاهدت الصغيرة تناول الحقيبة لزميلتها الأكبر سنا، «انظري، هذه السيدة أهدتني إياها، فقط لأنني قلت لها أنها تعجبني»، قالت الصغيرة وقد إرتسمت إبتسامة عذبة هادئة على محياها. سمعت صرير باب المتجر خلفي وعلمت أنني لن أرى هذه الصغيرة في الغالب مجددا، لن أعرف عن حياتها شيئا. كل التوقعات والإحصاءات الأمريكية ضدها، في الغالب هي لن تتمكن من إنهاء دراستها الجامعية، فرصتها كبيرة في الإنتهاء إلى علاقة عنيفة مع شريك فاشل، إحصائيا إحتمالية الإنتهاء في السجن أو كحبيسة لإدمان ما مرتفعة جدا، كل الظروف ضد هذه الصغيرة، كل الأرقام تعاند آمالها وأحلامها، فما فارق ما فعلته أنا؟
الفارق في الواقع يقع معي أنا لا معها، ففائدة العاطي عادة ما تفوق وبكثير فائدة المتلقي، حيث أن العطاء يؤثر في العاطي روحانيا وهورمونيا أكثر بكثير مما سيفعل واقعيا في حياة المتلقي. نعطي لربما بسبب أنانية رغبتنا في أن نستشعر الخير في نفوسنا ونرضى عنها، نعلن، كما أفعل أنا في المقال هنا، لربما إنطلاقا من طبيعة نرجسية ورغبة بالحوز على إعجاب الآخرين، الا أنه لربما تفضي كل هذه الأنانية والنرجسية إلى خير ما، إلى تشجيع شيء من التواصل الإنساني، إلى دعم الثقة بالخير، إلى الدفع بالأمل لمسافة أبعد في حيواتنا. أترك أنا قطعة محببة من ممتلكاتي مع هذه الصغيرة، وتترك هي بريق عينين وضحكة رائقة في ذاكرتي. لربما تفرح هي أيام بالحقيبة، الا أن بريق عينيها وضحكتها سيحملانني بعيدا ولسنوات طويلة، سيمدان جسرا إنسانيا بيني وبينها يصلنا ببعض حتى وإن لم نلتق مجددا أبدا، جسر سأمر عليه كلما ضاقت الحياة وقسى أصحابها.
هي الحياة تباعدنا بضربات حظ جينية عشوائية لا نملك سوى أن نعاندها بإنسانيتنا، بتواصلنا ولو بأبسط الصور والرمزيات، بضحكة رقيقة في وجه غريب، بقطعة شوكولاته لجار في تاكسي، ببدء حوار أليف مع مصطف في طابور مقهى، بمد اليد بحقيبة عزيزة على القلب لصغيرة جميلة وهي تطوي المشتريات وتضعها في الكيس بعد التاسعة ليلا، بتلك الصور البسيطة، نخلق تواصلا إنسانيا يخفف مرار الحياة، يرقق القلب، وربما، فقط ربما، يحيي أملا كاد، في قلب الطرفين، أن يموت.

اترك تعليقاً