تحميل إغلاق

طيران

طيران

لا يمكن مطلقاً القبول بمفهوم «الكوتا» الدينية، فمسألة عد النواب في المجلس، عد الوزراء في الحكومة، عد الموظفين بالدولة على أساس القسمة الطائفية هي عملية فتاكة، لا تضر بالمجتمع وتعايشه فقط، ولكنها كذلك تضر بالعقلية العامة التي يفكر بها هذا المجتمع.

أثار المقدم عمار تقي في برنامجه “مثير للجدل” موضوع الحوار الذي دار مع النائب صالح عاشور على أثر تغريدة له قال فيها “عشرة طلاب من متفوقي كلية الحقوق تم تكريمهم من قبل سمو أمير البلاد… تسعة منهم تم قبولهم في النيابة العامة، والعاشر لم يتم قبوله، والسبب أنه شيعي… إجمالي المقبولين أربعة وتسعون… عدد الشيعة المقبولين ثلاثة… ويقولون نعامل الكل بعدل وسواسية”، لأرد أنا بتغريدة: “ولماذا تعد أنت عدد الشيعة والسنة المقبولين أصلاً؟ هل نظرت في مؤهلاتهم ثم حكمت بالتمييز هذا أم أن دور الضحية الشعبوي هذا أًصبح متصدر كل موقف؟”. بعض التعليقات أشارت إلى أن ردي يتكلف الحياد، وأنه محاولة لرد أي “تهمة” بالمساندة المذهبية، كما عزت تعليقات أخرى تفادي الحقوقيين لقضية التمييز ضد الشيعة إلى أنها قضية “مش كلاس”، وهو التعليق الذي تكرر مرات عدة في تبيان غريب لشعور شيعي عام بأن قضية مواطَنتهم في الخليج يتم تجاهلها لأنها ليست “مودرن” بما فيه الكفاية، وهو شعور غير مفهوم أو مبرر في الواقع. يمكن أن يعزى إهمال القضية للخوف على المصالح، للخوف من الاتهام بالطائفية، لخطورة بعض جوانبها، ولكن لأنها ليست “كول”، فهذا تفسير لا أفهم لتكونه سبباً. كل القضايا الإنسانية غير جاذبة خصوصاً في هذه البقعة من العالم، وأغلبها خطر في التعامل، تداولها غاية في الصعوبة، وثمنها مكلف فوق التصور، وتسديده يومي دون حتى أن يشعر المهتم أو الحقوقي نفسه. لذا لا أفهم حقيقة من هذا التصنيف سوى فكاهته وغرابة منطقه.

في كل الأحوال، لم يأت تعليقي مستريحاً في نفس صاحبته، فأن تكتب معلقاً على شخص ينتمي إلى فئة أقلية في البلد منتقداً مطالبته وأسلوبه هو تصرف ذو حدين، وهو فعل يقف على شفا حفرة الخطأ وعلى حافة هاوية الصواب، تكاد تراه مرة هكذا ومرة كذلك، إلا أن المؤكد هو أن شيئاً ما رنّ موجعاً، مما دفعني رغم كل العوائق الإنسانية إلى كتابة التغريدة.

مما لا شك فيه، فإن الشيعة أقلية عددية وسياسية في الكويت، وهم يعانون تمييزاً وظائفياً وحقوقياً، ولا شيء أدل على ذلك من حقيقة أنهم مجبرون على دراسة مذهب غير مذهبهم في المدارس السنية، إلا أن هذا الوضع ما هو سوى نتاج طبيعي خالص لسياسة الدولة الدينية (رغم أن الكويت ليست دينية تماماً كما أنها ليست مدنية تماماً)، ففي النهاية لابد من اختيار منهجية دينية لقيادة الدولة، وفي نهاية النهاية ستتشكل أقلية مقموعة، بدرجة أو بأخرى، من كل أصحاب الديانات والطوائف الأخرى غير المعتمدة سياسياً في البلد. وكما هم السنة مميز ضدهم في إيران مثلاً، فإن الشيعة مميز ضدهم في الخليج، وهذا ويا لغرابة الجملة القادمة، هو أمر واقع مقبول ونتاج طبيعي ومتوقع لتداخل السياسة بالدين.

إلا أنه ورغم كل ما قيل، فإن التمييز ضد الشيعة لا يرقى إلى حجم المظالم و”التمييزات” الأخرى سواء في الكويت أو في العالم كله. الوضع الشيعي في الكويت مستقر، والصوت مرتفع، والتمثيل النيابي والحكومي على عدم تواؤمهما مع العدد والكفاءات الموجودة متحقق، وفرص الابتعاث والتوظيف ونيل بقية المييزات متوافرة كذلك. طبعاً هذا الوضع المستقر لا يضعف من القضية ولا يقلل من إساءة التمييز في شيء، فالتمييز تمييز زاد أو قل، إلا أن المبالغة في التعبير عنه واعتماد دور الضحية الدائم يبعث ليس فقط على الملل من الشكوى، ولكن التشكك فيها كذلك. في الغالب هناك تمييز تم ضد خريجي الحقوق، كما أشار النائب، ولكنه تمييز متوقع مثلما ذكرت أعلاه، ويجب أن يكون مفهوماً خصوصاً لنائب إسلامي، يرفض مفهوم الدولة العلمانية ويصوت في المجلس تصويتات دينية وينجح بأصوات أبناء طائفيته، فالأمر الحاصل هو أمر واقع اليوم بسبب من نوعية إيمانيات هذا النائب وممارساته (طبعاً هو وغيره من النواب الإسلاميين ومن الطرفين الشيعي والسني) والتي ساهم من خلالها في غرس مفهوم الدولة الدينية في بطن النبتة المدنية التي تمنيناها والتي ما رأت النور الحقيقي في يوم.

لا يمكن مطلقاً القبول بمفهوم الكوتا الدينية، فمسألة عد النواب في المجلس، عد الوزراء في الحكومة، عد الموظفين بالدولة على أساس القسمة الطائفية هي عملية فتاكة، لا تضر بالمجتمع وتعايشه فقط، ولكنها كذلك تضر بالعقلية العامة التي يفكر بها هذا المجتمع. إن المحاصصة الطائفية السياسية معكوسة اليوم على كل جوانب حياتنا، حتى مناطقنا مقسمة طائفياً، وباعتماد الكوتا الدينية ضماناً للعدل الاجتماعي، لن نخرج سوى بتعميق أكبر للمشكلة. ما كان المفروض أن يعد النائب عدد السنة والشيعة المقبولين، ولكن كان يفترض أن يعد عدد المؤهلين المرفوضين، ومن ثم يمكن له أن يشير إلى استنتاج وجود تمييز طائفي هو سبب عدم اعتمادهم. نعم، المسألة كلها في طريقة صياغة الفكرة، فتأثير اللغة أكبر وأخطر مما نتصور، فاللغة كما أنها تعكس أفكارنا، هي في ذات الوقت تشكلها وتعمقها صانعة لنا “الحقائق” التي نعيش مؤمنين بها.

لربما انتقاد مسلم البراك وهو مسجون (كما فعلت أنا سابقاً) ليس بالتصرف الحصيف شعبياً، ولربما انتقاد صالح عاشور، وهو أقلية تعاني تمييزاً، ليس بالتصرف الحصيف عاطفياً، إلا أن النقد، خصوصاً لمن يتحول بطلاً في محيطه، مهم، أهم من كل فوائد تجنبه أو دبلوماسية اختيار توقيته، فمتى ما تحول شخص ما إلى بطل، فإن أول ما يجب أن يهبط عليه هو النقد، ليبقيه على أطراف أصابعه، وليحافظ على حجم أناه، وليحتفظ بروحه على الأرض، طبيعية، دون تضخم أو طيران في أعالي السماء. والأهم، إذا كان الموقف يستحق نقداً، فليتقدم النقد، المحترم والرحيم إن أمكن، على ما عداه، فستبقى فوائده أعم وأشمل مهما تبين من مضاره. ومن يلعب سياسة يجب أن يعرف أنه في مرمى النقد مهما كان وأينما كان، أقلية كان أو أغلبية، سجيناً كان أو حراً، قوياً كان أو ضعيفاً، هذا قدر السياسي، وهذا واجب الأمة تجاهه.

اترك تعليقاً