تحميل إغلاق

ساهر مع آخر التاريخ

ساهر مع آخر التاريخ

للفن قداسة تميزه عن كافة أنواع التراث الإنساني، الفن رأي، ولكنه رأي إبداعي، ترفع عنه طبيعته كل قيد، الفن حر، لا حدود لحريته، وهو حر حتى في أن يكون متحيزاً، عنصرياً، بل ركيك الصنع، كذا هو الفن، يحميه إبداعه ويحرره من المقاييس والقيود. إلا أن الفن كغيره من أي نتاج إنساني يرضخ للنقد ولا يستطيع تجاوزه، نقدا يقيم العمل الفني ولا يكبله أو يمنعه أو يحجر عليه.

وانطلاقاً من هذه الفكرة، أجد أن العمل الفني “ساهر الليل” هو توثيق مهم لحدث فاصل في حياة الشعب الكويتي، توثيق نفتقده في الكتب والوثائق السياسية والتقارير الحكومية وغير الحكومية التي كان يجب أن تصدر وتعرض على الملأ، ولكن، وما ألعن هذه اللكن، نحن في دولة عربية، فيها “الهون أبرك ما يكون”، و”الستر زين” و”كان الله غفوراً رحيماً”. وبهذه الشعارات المتخاذلة، تضيع منا أحداثنا وتواريخنا وتتوه الحقائق وتطمس المعالم، فلا نعرف من أين أتينا ولا إلى أين نحن ذاهبون.

لذا، فأنا ممتنة لعمل يؤرخ الغزو العراقي الصدامي، وعلى الرغم من النقد الذي سيلي، أراه عملاً ناجحاً ودليل نجاحه الضجة التي أثارها والتي تدل على أن العمل وفى الغرض وحرك النفوس، وتلك هي مهمة الفن الأجلى والأعظم. إلا أن العمل لم يخلُ من الركاكة “المميزة” للأعمال الكويتية مؤخراً، فالحوارات مفككة وكأن من كتب أول سطورها نسي الفحوى عند الاقتراب من آخرها، والمشاعر مبالغة التأجج، فترى الشخصيات تثور وتصرخ في وجوه بعضها دون حاجة موضوعية أو فنية. لا يخلو المسلسل من ذات الجمل المتواضعة التي تتشاتم بها الشخصيات وتعزر بها بعضها، حوارات رديئة مثل “يلا يلا، روح اذلف، اكل تبن” وغيرها من الجمل الأكثر رداءة، والتي يحاول بها الكاتب أن يضفي شيئاً من الطبيعية على الحوار، لينقلب الى شيء مفكك مصطنع لا طعم له ولا معنى. ثم هناك هذه الجمل الوعظية التي تعطينا دروساً في حب الكويت أو تبالغ تمجيداً في دور المملكة العربية السعودية، وكلا الحالتين موثقتان، فحب الكويت والامتنان للسعودية الشقيقة لم يكن ليتطلب هكذا جمل مدسوسة دساً على النص، فتعطيه طابعاً وعظياً ساذجاً وكأننا أمام درس تعليمي لا عمل فني يحاكي العقل والضمير ويستثير قدرة الإنسان على التحليل والاستنتاج.

الكثير من الوقائع التي وردت في المسلسل حاكت الحقيقة، ولابد من التأكيد أن صناع المسلسل حرصوا على إظهار الجانب العراقي الشريف والمظلوم الرافض للغزو الغاشم، إلا أن الكثير من الأحداث كذلك، وغرقاً في المجاملات أو استسلاماً للأسلوب الوعظي أو تمسكاً بموقف الضحية، خرجت عن الواقع الذي كان. كان التركيز على دور السعودية الحاني خالياً من التسلسل الحقيقي الذي صاحب صنع القرار، وكان المديح والدعاء للأسرة الحاكمة الكويتية متجرداً من النقد الذي كان، ويعلم به الجميع، وجاء نتاج القرارات والإجراءات التي اتخذت إلى حين حدوث الغزو وما بعده. لا ننكر في يوم دور المملكة العربية السعودية الشقيقة ولا نتوانى في يوم عن الالتفاف الديمقراطي الدستوري حول العائلة الحاكمة في الكويت، ولكن هذا لا يجرد الأحداث من وقائعها والمجريات من معطياتها، فالتجريد يسطّح ويسذّج ويجعل العمل متملقاً متمسحاً في السلطة، وهذا ما ينأى عنه أي عمل جاد هادف.

أما أكثر المزعج في المسلسل فكان تكرار الشخصيات للسؤال الساذج: “ياربي احنا شنو سوينا حتى يصير فينا جذي؟ ما عمرنا أذينا أحد”، سؤال يحاكي الشفقة لا الحقيقة، فالواقع يقول إننا وكل دول الخليج الشقيقة فعلنا، ألم نغذِّ الوحش ونسمنه ونشد على يديه سنوات طوال حتى كبر وانتفخ وانفجر في وجوهنا؟ ألم نكن نتغنى بمآثر سيف العرب وهو يحفر المقابر الجماعية لأهل العراق ويحرقهم بالكيماوي ويبيد جيرانه من الإيرانيين؟ هذا ما فعلنا، فلنتحمل شيئاً من المسؤولية ولنوثقها، ليس العيب الاعتراف بالخطأ، ولكن العيب التستر تحت غطاء المظلوم تجاهلاً للمسؤولية المحتمة. فالمسلسل بدأ من آخر التاريخ لا من أوله، والتاريخ صنيعتنا جميعاً ومسؤوليتنا، فلنحكه بصدق إن أردنا مستقبلاً واعداً.

تبقى مسألة التوقيت، وتلك لن يتفق عليها اثنان، فلو ترك الأمر لي، لأجّلت العمل الفني سنوات بعد، فقد أتى مؤججاً لمشاعر كره نحن أحوج ما نكون لإطفائها، فبالرغم من كل ما عانته الكويت ولا تزال من آثار العدوان الشرير، يبقى العراق جاراً ملاصقاً، والعلاقات الدولية لا تعرف “أنا محاربك، روح لا تكلمني”، نحن مكلفون ببعضنا بعضاً شئنا أم أبينا، علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة ونتجاوز المحنة، فكيف نبدأ ومن أين؟

تبقى كلمة شكر مستحقة لطاقم المسلسل على جهودهم المبذولة، خصوصاً في مجال توثيق أسماء شهدائنا لفظاً وصورة، ذاك أقل المستوجب في حق هؤلاء الملائكة الخالدين. بيت القرين، بيت الشهيد أحمد قبازرد، سيرة شهيداتنا وفاء العامر وأسرار القبندي وغيرهما، شوارع الجابرية، أبراج الكويت وآبار النفط، وغيرها من اللقطات أتت لتحيي الذكرى التي لن تصبح في يوم رميماً. سيبقى “ساهر الليل” عملاً فنياً ذا أثر عميق مع كل ما تلقى من نقد، وما كان ليتلقاه لولا أنه نكأ الجراح، كل الجراح، فليسبغ الخالق على القلوب المحبة والهدوء ليعم السلام، ولنغفر وإن كنا لا ننسى ولا نريد أن ننسى، كلنا نحتاج أن نبقى نتذكر، كويتيون وعراقيون، كي لا يضيع الدرس وتذهب دماء الطرفين هدراً.

اترك تعليقاً