تحميل إغلاق

زين

اليوم شاهدت فيلم “كفر ناحوم” للعبقرية ندين لبكي، يعتريني غضب لربما سيجعل هذا المقال متشظياً بلا معنى أو هدف واضح، ولكن كيف ما يكون سيكون. لم تعترني لحظة حزن واحدة وأنا أشاهد الصغير ذا الاثني عشر عاماً يتحول إلى كهل، وهو بعد في طفولته يكره الحياة والناس منتهياً إلى مقاضاة أمه وأبيه أن أنجباه لهذه الدنيا دون أدنى شعور بالمسؤولية.

الفيلم ينتهي بابتسامة من الصغير “زين”، يطلقها أخيراً وهو ينهي إجراءات تحصله على تذكرة سفر تنقله من جحيم حياته إلى مجهول حياة أخرى في بلد آخر داخل غربة لا تناسب عمره أو طفولته. كان حولي عدد من السيدات اللواتي أسمع أصوات نهنهاتهن الخفيفة، ليلفحني غضب مضاعف، على ماذا تبكين؟ امسحن الدموع وواجهن الشاشة، وأسمعنني أيتها المرفهات، ومثلكن أنا، ماذا سنقدم لهذا العالم ولطفولته المعذبة غير دموعنا ونهنهاتنا المؤقتة؟

كدت أصرخ في السيدة التي على يميني وهي تسحب منديلاً من حقيبتها، ألا تعرفين أن هناك بيوتاً مشابهة لهذه في الكويت؟ ألا تعرفين أن هناك أطفالاً ضائعين إلى درجة تقترب برعب من تلك التي ترين على الشاشة وتتنهنهين بسببها؟ ألا تدركين أن هناك جهازاً حكومياً يريد أن يغير مسمى هؤلاء ليمحوهم من الوجود؟ ما سمعت بالخطة؟ أن إذا غيروا اسمهم من بدون إلى مقيمين بصورة غير قانونية، بووووف، فسيختفون. تذكرت ساعتها مقابلة للدكتور فيل، الأخصائي النفسي الأميركي الشهير، وهو يضحك من سذاجة محاولة تغيير التوصيف أو الاسم المستخدم لمحو فئة كاملة من الوجود، ليتساءل الدكتور بما معناه: وماذا سنفعل بوجودهم المادي؟ أين سيذهبون؟

ليذهبوا للجحيم، ومن سيهتم، مخمليو الكويت الذين يتراسلون برسالة عنصرية قميئة مثيرة للغثيان لإنقاذ الكويت من حفنة مستضعفة غاية أملها بطاقة تثبت وجودها في الحياة؟ أم هم البعض من النواب الذين وضعنا القدر تحت رحمتهم ليتجاهلوا حتى محاولات التواصل حول الموضوع بجبن يوحي بأن الضمير مات ودفن دون صلاة عليه؟ من سيهتم؟ من سيبيت ليلته يفكر في زين، في آلاف مثل زين يموتون في الشوارع تحت وطأة الجوع والعري، عرضة للمخدرات والجرائم والاغتصاب؟ لماذا نفكر في زين؟ هو بعيد، يفصلنا عنه أميال وأميال، تحمينا منه شاشة التلفزيون، إذا أصبحت قصته عصيبة على نفوسنا المخملية، نطفئ التلفزيون فيختفي هو بقصته ومأساته وآلامه، ألا لعنة الله على آلام الأطفال التي تقض مضاجع الكبار المرفهين المخمليين، الجالسين على الكراسي الخضراء والحمراء، حاملين “هَم” المنصب والمسمى، ألا لعنة الله على الأحلام والآمال، على البراءة والطفولة، على الإنسانية كلها، كل ذلك يذهب ليكون فداء نومتكم المستريحة على مخداتكم الوثيرة، ألا لعنة الله علينا ونحن نذكركم بالأوجاع المؤذية والأحلام الميتة، ومن نحن؟ أصوات جائرة، لا نحب بلدنا، ننشر غسيلنا، مغسول مخنا، نحن الذين لا “عم” لنا، لا أصل ولا فصل ولا أصالة عندنا، نحن الخونة، لعنة الله علينا وعلى كل من يقض مضاجعكم أيها “العمام”، نعلم أننا سننتهي وستستمرون، أننا سنخسر وتربحون، أن ألف زين سيموت لتحيوا كما تحيون.

هناك “زين” في كل مكان في الدنيا، حتى في الكويت هناك زين، لكنكم لا تريدون أن تروه، لا تريدون حتى أن تسمعوا عنه، لا تريدون أن تواجهوا من سيخبركم بوجوده أو يلمح ملمحاً عن طفولته الميتة ومستقبله المظلم. لربما تترفعون وتهملون، تكرهون وتتعنصرون، تتجاهلون وتتعنتون، لكنني أتمنى أن يريكم القدر وجهه في يوم، سأموت، إن لم ينته شيء إلى شيء، وعلى فمي هذا الدعاء، اللهم أرهم وجه القدر في يوم، اللهم آمين.

اترك تعليقاً