تحميل إغلاق

حصار

حصار

لربما هو الشعور بالأمان الذي يبقى هو العامل الأهم في تعزيز أي علاقة، تَقوى الصداقة بثقة الصديق بصديقه، تترسخ العلاقة الزوجية بمشاعر الأمان المتبادلة، ويبقى الأبناء متعلقين ومرتبطين بالآباء والأمهات بدافع من ذات مشاعر الثقة والأمان التي هي الأساس العاطفي للترابط البشري. لا أعتقد أن العلاقة بين المواطن والدولة تخرج عن هذه القاعدة، فالإنسان تقوى علاقته بوطنه حياتياً وعاطفياً بتحقيق درجة أمان في وطنه غير متوافرة له في أي بقعة أخرى في العالم. نسافر نحن إلى بقاع الأرض المختلفة، ونعود بحنين وشوق لا ينبعان فقط من ارتباط عاطفي بالأرض والناس، ولكن، والأهم، ينبعان من شعور طاغ بالألفة والأمان، ألفة المكان وأمان الانتماء.

في آخر رحلة لنا في أوروبا كان الأولاد يراقبونني عن كثب، وكلما امتدحت منظراً أو أطلقت آهة إعجاب وراحة، تصيدوني بأسئلتهم: انظري ماما كم أنت مرتاحة ومسترخية الأعصاب هنا، شوفي كيف تمشي الأمور بدقة وكيف يسري القانون بقداسة، ألا تشعرين كم هي مختلفة حياتنا عن حياتهم، شوفي همومهم ومتعهم، وقارنيها بهمومنا الكثيرة ومتعنا المحدودة. أجدني دوماً أكرر عليهم أن شعوري بالاستقرار والأمان في الكويت لا يعادله شعور، وأن رائحة الأرض وزرقة الخليج وصفرة الصحراء هي عندي جنة الله على الأرض. يضحك ابني البكر مني: تراك أذيتينا يا أمي برائحة الأرض، تجولي في “الداون تاون” وبعدين قولي لنا عن الرائحة. تغيم عيناي وتتسارع نبضات قلبي ويغيب سمعي، كلها ترتحل عودة للكويت، أقول لهم إنهم مساكين لأنهم لا يعرفون ما أعرف ولا يخبرون ما أخبر، لأنهم لا يميزون رائحة الكويت، ولا يفرقون زرقتها ولا يستطعمون صفرتها اليانعة البهيجة. أقول لهم إن أماني في الكويت، إن كرامتي وقدْري محفوظان فيها وبها. أقول إنهم بلا مشاعر ويقولون إنني بلا منطق، أقول لهم الوطن، يقولون كل أرض الله وطن، أقول لهم العمر والتاريخ والثقافة، يقولون كلها من صنع الإنسان، يصنعها أينما يريد، أقول ويقولون، وأمام جبال الألب الخلابة يذوب قلبي شوقاً وأعدّ أيامي عداً عودة للكويت.

ونعود لتُعتقل سارة الدريس، وليجتمع نواب مجلس الأمة ليدغدغوا مشاعر المواطنين، ونحن نجد اقتراباً من الانتخابات، بخمسة وسبعين لتراً من البنزين شهرياً بدلاً من التأكيد على ضرورة تحمل مسؤولية الزيادة الطبيعية المتوقعة، وليقول هذا البرلماني إنه ينوي جلد الناس في ساحة الصفاة وليثور هؤلاء البرلمانيون بسبب حفل غنائي في الآفينيوز، وليشمت في منطقي الأولاد: ها ماما، عساك بس تشعرين بالأمان؟ فأقول لهم إن الأمان في قلبي، وأن نار الكويت ولا جنة الغربة، وأقول وأقول، وأنا أعرف أن الأمان ضاع منا جميعاً، وأن الثقة تبخرت وأنا أرى الصورة الحزينة في مخيلة أبنائي والجيل الجديد كله لأرض غنية حديثة قائمة على شبكة علاقات اجتماعية ووسائطية ضخمة معقدة لا مكان للمجتهد فيها، أرض لها إمكانات عظيمة إلا أنها بلا خطط تنمية وبلا مخططين واعين قلبهم عليها وعقلهم واع لإمكاناتها، أرض تأسست على الحرية إلا أنها اليوم تبتلع أبناءها إن تحدثوا، أرض بحكومة تركت مشاكلها وتحدياتها وبقيت تلاحق هذا المغرد وذاك الكاتب فتعاقبه قبل حتى أن يصدر حكم عليه. في القرن الحادي والعشرين ومع جيل جديد لا يعرف أفقاً للحرية ولا سقفاً للتواصل ولا حدوداً للتدفق الإخباري، جيل معلومات الدنيا تقف تحت ضغطة إصبعه، ووسائل إيصال الكلمة تتعدد تحت ناظريه ومسمعه، مع جيل كهذا كيف تستطيع أن تثبت الشعور بالثقة في بلد أرضه واسطة وسقفه فساد مالي؟ كيف تستطيع أن تعزز الشعور بالأمان في بلد يعتقل أبناءه بسبب تغريدة رأي؟ كيف أوصل لأبنائي ولجيل كامل يمر عليّ في صفوف الجامعة هذا الشعور بالأمان والثقة الذي ورثته أنا من غابر الأيام وما عاد موجودا اليوم؟ كيف أجعلهم يرون شيئاً من الماضي، كيف؟

اترك تعليقاً